رمضان معجره إصلاحية
رمضان المبارك: نفحات روحية وحكم خالدة
يظل شهر رمضان المبارك مصدر إلهام للفكر النير والمشاعر النبيلة، حيث تفيض عقول العلماء والأدباء والمفكرين والشعراء بأجمل الحكم والمواعظ التي تعكس عظمة هذا الشهر الفضيل ومكانته الرفيعة في قلوب المؤمنين. ومن بين تلك الكلمات المضيئة، نقتطف ما يلي:
يقول الحسن بن علي رضي الله عنهما: “جعل الله رمضان مضمارًا لعباده، يتنافسون فيه على الطاعات لنيل مرضاته، ففاز من اجتهد، وخسر من تكاسل.”
أما الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنه، فقد شدد على ضرورة أن يكون الصيام سلوكًا متكاملًا، حيث قال: “إذا صمت، فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن كل محرم، واحرص على حسن المعاملة مع جيرانك، وتحلَّ بالوقار والسكينة، فلا يكن يوم صومك كغيره من الأيام.”
ومن كلماته الحكيمة، قال الحسن البصري رحمه الله: “إن الصيام ميدان سباق للطاعات، ففاز فيه قوم بخير أعمالهم، بينما انشغل آخرون بسفاسف الأمور فخابوا وخسروا. ولو كشف الغطاء لرأى المحسن ثمار إحسانه، والمسيء عاقبة أفعاله، فلا يشغله حينها مظهره أو زينته.”
أما الإمام الشافعي رحمه الله، فقد حثّ على الجود في هذا الشهر الكريم، قائلاً: “أُحب للصائم أن يضاعف كرمه اقتداءً بالنبي ﷺ، إذ يزداد احتياج الناس فيه، كما ينشغل الكثير منهم بالعبادة عن السعي في أرزاقهم.”
وفي رؤية تأملية، قال الإمام الغزالي رحمه الله: “الصيام زكاة للنفس ورياضة للجسد، يُهذب الروح ويُهذب الأخلاق. ففي الجوع تصفو القلوب وتتقد البصيرة، بينما يُفضي الشبع إلى الكسل وبلادة الذهن. لذا، احفظ قلبك بالتقليل من الضحك والشبع، وطهره بالصوم، فإنه سبيل الصفاء والرقة.”
أما ابن قيم الجوزية رحمه الله، فقد أوضح الغاية العظمى من الصيام قائلاً: “يهدف الصيام إلى كبح الشهوات، وفطم النفس عن عاداتها، وتعزيز إرادتها في السعي نحو سعادتها الأبدية. فالجوع والعطش يُذكران الصائم بأحوال الفقراء، كما يضيقان منافذ الشيطان في الجسد، ويكبحان جماح النفس، فيكون الصيام درعًا للتقوى ومدرسة للروح.”
ويضيف ابن رجب الحنبلي رحمه الله: “كما أن الصيام في ذاته مُضاعف الأجر مقارنة بسائر العبادات، فإن صيام شهر رمضان يحظى بميزة خاصة لارتباطه بأحد أركان الإسلام، مما يجعله أكثر رفعة وفضلًا عند الله.”
وفي موقف مؤثر، قيل للأحنف بن قيس رحمه الله: “إنك رجل مسن، والصوم يرهقك”، فأجاب: “أنا أعدّه زادًا لسفر طويل، والصبر على طاعة الله أيسر من الصبر على عذابه.”
أما الأديب مصطفى صادق الرافعي رحمه الله، فقد تحدث عن فلسفة الصيام الاجتماعية قائلاً: “الرحمة تنبع من الإحساس بالألم، ولهذا يُعد الصوم تجربة عملية لتربية الرحمة في النفس، إذ يُحرم الجسد من الطعام لفترة مدروسة، مما يُنمي الإحساس بالآخرين. إن رمضان أشبه بموسمٍ سنوي تُمنح فيه الروح فرصة لاستعادة توازنها، فتكون ثلاثون يومًا بمثابة إعادة تأهيلٍ للنفس، مما ينعكس إيجابًا على المجتمع بأسره.”
رمضان رحلة نحو الصفاء الروحي والتجدد الإيماني
مع كل فجر من أيام رمضان، تتجدد الفرصة أمام الإنسان ليغتنم أوقاته فيما يقربه من الله، ليطهر قلبه من أدران الذنوب، ويصقل روحه بنور الطاعات. إنه شهر تختلف فيه المقاييس، فتعلو فيه الروح على الجسد، ويتراجع سلطان الشهوات أمام قوة الإيمان والإرادة. فمن فهم حكمة الصيام، أدرك أنه أكثر من مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو مدرسة لترويض النفس وتحريرها من قيود الماديات.
الصيام اختبار الصبر وباب الرحمة
يقول الإمام الغزالي رحمه الله: “الصيام زكاة للنفس، ورياضة للجسد، وسبب لاستقامة القلب، ففي الجوع صفاء الفكر، وتوقد الذهن، وسمو الروح.” وهذا ما يجعل الصيام اختبارًا حقيقيًا للصبر والتحمل، إذ يعلم الإنسان كيف يتحكم في رغباته، ويذوق مرارة الحرمان ليشعر بآلام المحتاجين، فيلين قلبه، وتزداد فيه معاني الرحمة والإحساس بالآخرين.
وقد أشار ابن القيم الجوزية رحمه الله إلى ذلك بقوله: “إن الجوع يرقق القلب، ويقوي الروح، ويزيد من قدرة الإنسان على إدراك حاجات غيره.” فلا عجب أن يكون الصوم أحد أسباب تطهير النفس من القسوة والأنانية، إذ يكسر نزعة التملك، ويعمق الإحساس بالغير.

رمضان شهر القيام والقرآن
لم يكن رمضان شهر الصيام فقط، بل هو أيضًا شهر القيام والقرآن. فقد كان رسول الله ﷺ يحرص في هذا الشهر على الإكثار من تلاوة القرآن، ويتدبر آياته، ويجتهد في قيام الليل، حتى قال الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: “كان رسول الله ﷺ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن.”
فمن أراد أن يذوق حلاوة رمضان، فليجعل القرآن رفيقه، وليقم بين يدي الله في الأسحار، حيث تتجلى أسمى معاني القرب من الله، وحيث تتنزل السكينة على القلوب، فيخشع العبد، وينعم بلذة مناجاة ربه.
ليلة القدر تاج الشهر المبارك
وفي ختام هذا الشهر المبارك، تتجلى ليلة القدر، تلك الليلة التي وصفها الله بأنها “خير من ألف شهر.” فيها تتضاعف الحسنات، وتُرفع الدعوات، وتُفتح أبواب المغفرة، فمن وفقه الله لإحيائها، فقد نال خيرًا عظيمًا.
وقد كان النبي ﷺ يحرص على الاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان، فيعتكف في المسجد، ويزيد من طاعته، ويحث أصحابه على اغتنام هذه الليالي العظيمة، حيث قال: “من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه.”
رمضان بداية جديدة
لا ينبغي أن ينتهي رمضان كما بدأ، بل يجب أن يكون نقطة تحول حقيقية في حياة الإنسان، حيث يخرج منه بقلب أنقى، ونفس أصفى، وعزيمة أقوى على مواصلة السير في طريق الخير. فالغاية من الصيام ليست مجرد الامتناع عن الطعام والشراب، وإنما تحقيق التقوى، كما قال الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183).
فلنجعل رمضان هذا العام بدايةً جديدةً لطاعة الله، وتطهير القلوب، والسير على طريق الهداية، حتى يكتبنا الله من الفائزين، ويجعلنا من المقبولين.
اللهم اجعلنا من عتقاء شهرك الفضيل، وأكرمنا فيه بمغفرتك، وأعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
بهذا الختام، يصبح المقال متكاملًا، حيث يغطي جميع جوانب رمضان الروحية والعملية، ويحث القارئ على استثمار هذا الشهر الفضيل في طاعة الله والسير في طريق الخير.
وهكذا يبقى رمضان مدرسةً إيمانيةً وروحية، تهذب النفوس وتسمو بها إلى أعلى مراتب الطاعة والصفاء.