رمضان شهر الحرية

رمضان: شهر التحرر الحقيقي

يظنُّ الكثيرون أن الحرية تقتصر على استقلال الشعوب ونيل حقوقها السياسية، لكن هذه ليست سوى إحدى صور الحرية. فالحقيقة أن الحرية تمتد إلى الفكر والثقافة والتوجهات الإنسانية النبيلة، التي تعكس استقلال الأمة في قراراتها ورؤيتها للعالم.

وكذلك يخطئ بعض الشباب في فهم الحرية، إذ يرونها في الانطلاق بلا قيود، والانغماس في الشهوات دون رادع، ظنًّا منهم أن ذلك هو جوهر التحرر. لكن في الواقع، هذه ليست سوى فوضى مقنعة، بل إنها في جوهرها عبودية مقنعة لرغبات زائلة.

الحرية بين النظام والانضباط

لا وجود للحرية المطلقة في أي مجتمع؛ فكل شيء في الحياة محكومٌ بقوانين تنظمه، وإلا كان الفوضى هو المصير المحتوم. على سبيل المثال، قوانين المرور تُقيِّد حرية السائق، لكنها في الوقت ذاته تحافظ على سلامته وسلامة الآخرين. كذلك، القوانين العامة تمنع الإزعاج في ساعات الليل المتأخرة حفاظًا على راحة الجميع. إذن، فالحرية الحقيقية ليست في التحلل من القوانين، بل في الالتزام بها لتحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات.

وفي سياق آخر، نجد أن الحرية لا تعني السماح بنشر الأفكار التي تهدد أمن المجتمع أو تدعو إلى الفتن، كما لا تعني إمكانية التعاون مع العدو على حساب مصلحة الأمة. فبعض القيود ليست إلا ضمانًا لاستدامة الحرية وحمايتها من الانزلاق نحو الفوضى.

الحرية بين التحرر والعبودية المقنعة

الحياة الجماعية تفرض على الإنسان قيودًا تصون حقوق الآخرين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قدَّم مثالًا رائعًا لهذه الفكرة في حديث السفينة، حين بيَّن أن ترك شخصٍ يخرق السفينة دون تدخُّل يؤدي إلى هلاك الجميع. فالحرية لا تعني الفعل المطلق، بل تتطلب وعيًا بالمسؤولية.

وفي المقابل، فإنَّ التمرد على الضوابط قد يتحوَّل إلى عبودية من نوع آخر؛ عبودية للرغبات والنزوات التي تتحكم في الإنسان وتقوده دون وعي. فالشخص الذي يستسلم للملذات يصبح عبدًا لها، يسعى خلفها بلا وعي ولا قدرة على التحكم في نفسه. فهل يمكن لمن يتبع شهواته بلا وعي أن يدَّعي أنه حر؟! إن الحيوانات تعيش بلا قيود، لكنها لا تمتلك الوعي الذي يميّز الإنسان عن غيره.

التحرر الحقيقي في السيطرة على النفس

إن الحرية الحقيقية ليست في الانطلاق خلف الشهوات، بل في القدرة على كبح جماحها والتحكم بها. فمن يستطيع كبح رغباته وإخضاعها للعقل والقيم، هو الإنسان الحر بحق. فمن يستعبد المال أو السلطة أو الشهرة، لن يعرف طعم الحرية أبدًا. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى بقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]، فالذي ينقاد وراء أهوائه يصبح عبدًا لها دون أن يدري.

رمضان يُمثل فرصة عظيمة لاختبار هذا المفهوم، فهو مدرسة للتحرر من العادات السلبية، حيث يمنع الإنسان نفسه عن الطعام والشراب، لا ضعفًا ولا قسرًا، بل طواعية وإيمانًا. فالصيام ليس حرمانًا، بل هو درس في قوة الإرادة، وفرصة لإثبات أن الإنسان قادرٌ على السيطرة على شهواته وليس العكس.

الإيمان سبيل الحرية الحقيقية

الإنسان المؤمن هو أكثر الناس حرية، لأنه تحرر من عبودية المادة والشهوات، وربط نفسه بالله الذي لا يُقهر. فعبادة الله ليست تقييدًا، بل انعتاقًا من كل ما يُذلُّ النفس ويُضعف الإرادة. فحينما يخضع الإنسان لربه، لا يعود خاضعًا لمخاوف الدنيا، ولا يذله الطمع أو الجشع، ولا تستعبده الرغبات الفانية.

وهذا ما عبّر عنه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: “ليس الغِنَى عن كثرة العَرَض، إنما الغنى غنى النفس”. فالغنى الحقيقي ليس بامتلاك الأشياء، بل بالاستغناء عنها.

رمضان شهر الحرية
رمضان شهر الحرية
الحرية في ضوء رمضان

إذا تأملنا رمضان، سنجد أنه شهر الحرية الحقيقية؛ ففيه يتعلَّم الإنسان كيف يكون سيدًا على نفسه، كيف يتحكم في شهواته، وكيف يُدير وقته وأفعاله بوعي وإرادة. فليس الامتناع عن الطعام والشراب هو التحدي الأكبر، بل التحرر من قيود العادات السيئة، والتخلص من عبودية النزوات التي تسيطر على الكثيرين طوال العام.

إن الحرية الحقيقية ليست في القدرة على السفر أو التصرف بلا قيود، بل في امتلاك النفس وعدم السماح لها بأن تستعبدها الشهوات والرغبات العابرة. فمن فهم هذه المعاني، أدرك أن رمضان ليس مجرد شهر للعبادة، بل هو مدرسة للتحرر من كل ما يستعبد الإنسان ويقيده، ليخرج منه أكثر وعيًا، وأكثر تحكمًا في نفسه، وأقرب إلى جوهر الحرية الحقيقية.

مزيد من الخواطر الرمضانية