رمضان يتفاءل!
رمضان شهر الأمل والتجديد
منذ أن أشرقت الدنيا بنور الإسلام، تعرّض هذا الدين العظيم لموجات من العداء والمكائد المتكررة، حيث تولّى كِبر ذلك أعداؤه من الكفار والمنافقين وأصحاب الأهواء والجهلة والمستعجلين. ومع ذلك، سيظل هذا الدين قائمًا، ولن يختفي أثره إلا عند اقتراب الساعة، حين لا يبقى على وجه الأرض إلا شرار الخلق، والعياذ بالله.
ولكن من حكمة الله وتدبيره البالغ، أنه جعل نصرة الإسلام وتجديده متصلة بثوابت لا تتغير، فحفظ لنا القرآن والسنة، وأبقى الشعائر التي تميز المسلمين، وجعل تعظيمها من دلائل التقوى. فالأذان يرفع صوت التوحيد، والصلاة تعمّق الصلة بالخالق، والحج يوحد القلوب، والزكاة تغرس معاني التكافل، ورمضان يأتي ليعيد الحياة للنفوس بالإيمان والتقوى.
ومع اقتراب شهر رمضان، تنشط الأمة لاستطلاع هلاله سواء بالعين المجردة أو الحسابات الفلكية، وهذه الاستعدادات توقظ الإيمان في القلوب، إذ يُظهر الناس شوقهم لزمان يتركون فيه شهواتهم طوعًا لأجل رضا الله. وإن أمةً تمتنع بإرادتها عن الملذات تقربًا إلى بارئها، هي أمة حية، لا يزال الأمل في نهضتها قائمًا رغم ما يعتريها من عثرات.
ويجلب رمضان معه أجواءً من التفاؤل والتهيؤ، حيث تستعد النفوس لاستقباله بشتى الطرق، سواء عبر العبادات والطاعات، أو من خلال تحضيرات الأسر والمجتمعات. ولا يقدر هذه النعمة العظيمة إلا من يدرك قيمة هذا الشهر المبارك، ويعظّم مكانته، ويستشعر الخير العظيم الذي يحمله للأمة، مهما واجهت من تحديات وصعوبات.
ويظل رمضان منبعًا للأمل، حيث يعيد الكثير من الناس إلى رحاب الطاعة بعد فترات من الغفلة. وليس صحيحًا أن نطلق الأحكام المتشائمة على المجتمعات، بل ينبغي أن ننظر إلى هذا التغير السنوي بعيون التفاؤل، إذ تعج المساجد بالمصلين، ويتسابق الناس لفعل الخيرات، مما يؤكد أن العودة إلى الدين أمر ممكن، بل مشهود في كل عام.
كما يُلهمنا رمضان إلى ضرورة العودة إلى القرآن، ذلك الكتاب العظيم الذي يحمل بين طياته النور والهدى. فمن المؤسف أن يكون بين أيدينا ثم لا نستخدمه في دحض الشبهات، والانتصار للحق، وهو المعجزة الخالدة التي أنارت قلوب وعقول الأجيال السابقة. فما أوثق العلاقة بين رمضان والقرآن، وما أعظم أثر التدبر في إحياء النفوس!
ومن بركات رمضان أنه يكشف زيف النفاق، إذ يجد المنافقون أنفسهم محاصرين في بيئة تُعظّم هذا الشهر، فلا يجرؤون على إظهار استهتارهم به، ويتوارون عن الأنظار، مخافة ردة فعل المجتمع الذي لا يزال متمسكًا بتقديس هذه العبادة الجليلة.
كما يسهم رمضان في تعزيز وحدة المسلمين، إذ يجتمعون على عبادة واحدة في زمان متقارب، مما يذيب الخلافات ويجمع القلوب التي فرّقتها الدنيا ومتاعها، ويوحد الأمة التي تتشارك في العقيدة والمصير.
ولأن رمضان هو شهر الخير والبركة، فإنه يحمل في طياته دروسًا عظيمة في الصبر، والعطاء، والتقوى. فهو مدرسة إيمانية يتعلم فيها المسلم كيف يكون أكثر قربًا من الله، وكيف يجاهد نفسه في سبيل تحقيق الطاعة والتخلي عن العادات السيئة. فمن صبر على الجوع والعطش، كان أقدر على الصبر أمام الشهوات والمغريات، ومن اعتاد قيام الليل وقراءة القرآن، كان أقرب إلى طريق الاستقامة بعد انقضاء الشهر.
كما أن رمضان يحيي في الأمة قيم التكافل الاجتماعي، فيشعر الغني بحاجة الفقير، ويزداد البذل والعطاء، حيث تمتد موائد الإفطار في الشوارع، وتزداد التبرعات والصدقات، فتسود روح المحبة والتآخي بين الناس. وليس هذا فحسب، بل إن رمضان يشحذ الهمم نحو العمل الصالح، فنرى إقبالًا غير مسبوق على أداء العبادات، من صلاة التراويح إلى تلاوة القرآن إلى الاعتكاف والدعاء.
وإذا كان رمضان محطة إيمانية يتزود فيها المسلم بما يعينه على السير في درب الاستقامة، فإن أهم ما ينبغي أن يتحقق بعده هو استمرار أثره في حياة الفرد والمجتمع. فالغاية ليست مجرد صيام ثلاثين يومًا، ثم العودة إلى العادات السابقة، بل أن يكون رمضان نقطة تحول نحو الأفضل، وبداية جديدة في التقرب إلى الله، والمحافظة على الطاعات، وتجنب الذنوب والمعاصي.
إن رمضان فرصة لا تعوض، فهو موسم الرحمة والمغفرة، وهو زمن التغيير الحقيقي، لمن أراد أن يجدد علاقته بربه، ويبدأ صفحة جديدة نقية من الأوزار والآثام. فهنيئًا لمن أدرك قيمته، واغتنم لحظاته، وسعى لأن يكون من عتقائه في آخره. وهنيئًا لمن استشعر الفأل الحسن في أيامه ولياليه، وتحرّى فيه الخير، وسعى لنشره بين الناس.
فيا عباد الله، استقبلوا رمضان بالفرح، وعظّموه بما يليق به، ولا تضيعوا ساعاته في الغفلة، بل اجعلوه منطلقًا لحياة مليئة بالخير والبركة، مستبشرين بما أودعه الله فيه من نفحات الرحمة والرضوان. والحمد لله الذي بلّغنا رمضان، ونسأله أن يعيننا على صيامه وقيامه، وأن يرزقنا فيه القبول والغفران، وأن يجعلنا من عتقائه من النيران.
إن شهرًا يُستقبل بالأمل، ويمضي بأجواء التفاؤل، وينتهي برجاء القبول ومغفرة الذنوب، هو شهر يستحق الاحتفاء والتقدير. فلنحرص على نشر ثقافة التفاؤل في أنفسنا، وأسرنا، ومجتمعاتنا، وفي كل بقاع المسلمين. والحمد لله الذي وفقنا لهذا، وما كنا لنصل إليه لولا توفيقه وكرمه.
وكما أن رمضان هو شهر الطاعات والقربات، فهو أيضًا شهر التغيير والإصلاح، شهر تصفو فيه القلوب، وتنقى فيه النفوس من شوائب المعاصي والذنوب. فليس الغاية من الصيام الامتناع عن الطعام والشراب فحسب، بل تحقيق التقوى في القول والعمل، ومجاهدة النفس على ترك ما يغضب الله، وتزكية الروح بذكره وعبادته.
إن رمضان يعلمنا كيف نكون أكثر انضباطًا في حياتنا، فالمسلم فيه يحرص على تنظيم وقته بين العبادة والعمل والأسرة، ويزداد شعوره بالمسؤولية تجاه نفسه ومجتمعه، كما ينمي فيه روح المراقبة لله، فيمتنع عن الحرام ليس خوفًا من أحد، وإنما إيمانًا واحتسابًا، وهذا هو جوهر التقوى التي يريدها الله منا.
ومن بركات هذا الشهر الفضيل أن أبواب الرحمة والفضل فيه مفتوحة لكل من أراد العودة إلى الله، فمهما كانت الذنوب، ومهما كانت الغفلة، فإن الله يغفر لعباده، ويفتح لهم أبواب التوبة والمغفرة. فطوبى لمن استغل هذا الموسم العظيم، وتعرض لنفحات الرحمة فيه، وعاهد الله على بداية جديدة، مليئة بالإيمان والطاعة.
كما أن رمضان فرصة عظيمة لإصلاح العلاقات، سواء بين العبد وربه، أو بينه وبين الناس، فهو موسم المسامحة والعفو، حيث تسود فيه روح الأخوة والتراحم، وتتلاشى الأحقاد والضغائن، ويسارع الناس إلى صلة الأرحام وإعادة بناء جسور المحبة بين القلوب.
وإن أعظم ما ينبغي أن يحرص عليه المسلم في هذا الشهر المبارك هو حفظ وقته، واستغلاله فيما يعود عليه بالنفع في دنياه وآخرته. فالوقت في رمضان ثمين، فلا ينبغي أن يُضيّع في اللهو والغفلة، بل يُستثمر في قراءة القرآن، وقيام الليل، والدعاء، والذكر، والعمل الصالح، حتى يكون هذا الشهر شاهدًا لنا لا علينا يوم القيامة.
وما أجمل أن نختم رمضان بنفس الروح التي بدأناه بها، فلا يكون مجرد محطة عابرة في حياتنا، بل يكون بداية حقيقية لتغيير دائم، واستقامة مستمرة، وتعلق أشد بالله وبعبادته. فإن من علامات القبول أن تستمر الطاعات بعد رمضان، وأن يظل القلب متعلقًا بروحانياته، فلا تنطفئ جذوة الإيمان بانقضائه، بل تبقى مشتعلة حتى بعد رحيله.
فيا عباد الله، اغتنموا هذه الفرصة العظيمة، واشكروا الله على نعمة بلوغ رمضان، وأكثروا من الدعاء بأن يتقبل أعمالكم، وأن يجعلكم من الفائزين فيه، ولا تدعوه يرحل دون أن يترك أثرًا جميلًا في قلوبكم وسلوككم.
ومع اقتراب وداع رمضان، يشعر المؤمن بحزن الفراق، ويدرك كم كانت أيامه ولياليه نفحات رحمةٍ وفضلٍ من الله، فيتمنى لو طال به المقام في رحابه، حيث كان يجد في أيامه الصفاء والسكينة، وفي لياليه الروحانية والتقرب إلى الله. ولكن العاقل من يدرك أن العبادة والطاعة لا ترتبط بزمانٍ معين، بل هي سمةُ حياة المؤمن التي تلازمه في كل وقتٍ وحين.
فليكن وداع رمضان بدايةً لاستمرار الطاعة، لا نهايةً لها، ولنجعل مما تعلمناه في هذا الشهر المبارك زادًا لنا في الأيام المقبلة، فرب رمضان هو رب الشهور كلها، وهو الذي يستحق العبادة في كل حين، فالسعيد من وُفّق لاستغلال رمضان، والأشد سعادةً من حافظ على ما بدأه فيه من خيرٍ واستقامةٍ بعد رحيله
إن يوم العيد هو تتويجٌ لجهود المؤمنين في شهر رمضان، وهو يوم فرحٍ وسرور، لكنه في ذات الوقت امتحانٌ حقيقي لثبات العبد على طاعة الله. فكما أقبلنا على رمضان بحفاوةٍ وتعظيم، فلنودّعه بنفس المشاعر الصادقة، ولنحذر أن يكون آخر العهد بالطاعة، بل ليكن بدايةً لطريقٍ جديدٍ مليءٍ بالاستقامة والإحسان.
ومن علامات قبول العمل أن يرى العبد أثر رمضان في حياته، فيكون أكثر تقوى، وأشد تعلقًا بالطاعات، وأكثر حبًا للخير وأهله، وأقل ميلاً إلى المعاصي والغفلة. ومن وجد في قلبه هذا التحول، فليحمد الله على توفيقه، وليرجُ منه المزيد من الثبات، وليحذر من الانقطاع عن الأعمال الصالحة بعد انتهاء الشهر.

ولنتذكر دائمًا أن أبواب الخير مفتوحةٌ طوال العام، فمن فاته الاجتهاد في رمضان، فلا يزال باب التوبة مفتوحًا، وأعمال البر متاحةً، والله يقبل من عباده ما داموا مخلصين له. فالقيام لا يقتصر على ليالي رمضان، والصيام لا ينتهي بانتهاء الشهر، والقرآن ينبغي أن يكون رفيقنا في كل الأيام، والدعاء والذكر لا يتوقفان أبدًا.
وختامًا، نسأل الله أن يكون قد كتبنا في هذا الشهر الكريم من المقبولين، وأن يجعلنا ممن غفرت ذنوبهم وعتقت رقابهم من النار، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه في كل زمانٍ ومكان.
اللهم اجعل رمضان شاهدًا لنا لا علينا، وتقبل صيامنا وقيامنا، وأصلح قلوبنا، وثبتنا على الطاعة بعده، وارزقنا من فضلك في الدنيا والآخرة، واجعلنا من عبادك الصالحين، والحمد لله الذي بلّغنا رمضان، ونسأله أن يبلّغنا إياه أعوامًا عديدة، وأزمنةً مديدة، ونحن في صحةٍ وإيمانٍ وعافية.
اللهم اجعل رمضان هذا العام شهر خير وبركة علينا وعلى أمتنا، وأعنّا على صيامه وقيامه، واجعلنا فيه من المقبولين، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.