طلاب العلم والدعاة في رمضان
رمضان: فرصةٌ للتميز في العبادة والتقرب إلى الله
يُعرف شهر رمضان بأنه شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن، وهذه حقيقة يُدركها الجميع، حيث يشترك المسلمون في هذه العبادات، إلا من حُرِم هذه النعمة. فنجد الداعية وطالب العلم والعامي يصومون النهار، يؤدون صلاة التراويح، ويكثرون من تلاوة القرآن الكريم. ولكن، ما الذي يُميّز طالب العلم والداعية عن غيره في هذا الشهر المبارك؟ هل يقتصر دوره على الصيام وأداء التراويح، والتي لا تتجاوز مدتها في معظم المساجد ساعة واحدة، وختم القرآن مرة واحدة فقط خلال الشهر؟
إذا كان هذا هو الحال – وهو حال الكثيرين للأسف – فما الفرق إذن بينه وبين عامة الناس الذين يؤدون هذه العبادات أيضًا؟ ألا يتطلب الأمر وقفة تأمل ومراجعة للذات؟ والأدهى من ذلك، أن البعض منهم يشارك العامة في السهر الطويل خلال ليالي رمضان، وإن كان الفرق في أن بعضهم يسهر على المحرمات، بينما الآخرون ينشغلون بالمباحات، مثل تصفح الإنترنت ومشاهدة البرامج التلفزيونية النافعة. ولكن، إذا كان هذا الأمر غير محمود في غير رمضان، فكيف يكون مقبولًا في رمضان؟! والأسوأ من ذلك أن يؤدي هذا السهر إلى تفويت صلاة الظهر جماعةً في المسجد!
الفهم الخاطئ للاجتهاد في العشر الأواخر
من الأخطاء الشائعة لدى بعض الدعاة وطلبة العلم أنهم يقتصرون على الاجتهاد في العبادة خلال العشر الأواخر فقط، مستدلين بحديث النبي ﷺ: “كانَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إذا دخلَ العشرُ الأواخرُ شدَّ المئزرَ وأيقظَ أهلَهُ، وأحيا ليلَهُ.” غير أن الحديث لا يدل على أن الاجتهاد يقتصر على العشر الأواخر فقط، بل يشير إلى زيادة الاجتهاد فيها، وهو فرق مهم ينبغي إدراكه.
الاهتمام بالمظاهر على حساب الجوهر
يخطئ بعض المسلمين عندما يقدّمون المظاهر الشكلية على أساسيات العبادة، فنجد البعض يتنقل بين المساجد بحثًا عن إمامٍ ذو صوتٍ جميل، معتبرًا أن ذلك أدعى للخشوع. ولا شك أن الصوت الحسن يؤثر في القلوب، لكن لماذا يبحث البعض عن الجمال الصوتي دون الالتفات إلى خشوع الإمام وجودة صلاته؟! وآخرون يتنقلون بين المساجد بحثًا عن إمام يُطيل القنوت في الدعاء، بينما آخرون يبحثون عن أسرع صلاة يمكنهم أداؤها! فهل هذا هو جوهر العبادة؟
الاعتكاف: روحانية أم تجمعات اجتماعية؟
من الظواهر الإيجابية التي شهدناها في السنوات الأخيرة حرص الكثير من الدعاة وطلاب العلم على إحياء سنة الاعتكاف، بعد أن كادت تندثر بين المسلمين. لكن مع ذلك، يقع بعضهم في خطأ تحويل الاعتكاف إلى مجرد لقاءات للمسامرة وتضييع الوقت في أحاديث جانبية، مما يفقد الاعتكاف معناه الحقيقي ويُضيع على المعتكفين لذة هذه العبادة العظيمة.
الأولوية للصلوات المفروضة أم التراويح؟
كما انتشرت ظاهرة إيجابية أخرى، وهي إقبال الكثير من الدعاة على مجاورة بيت الله الحرام لأداء الصلوات فيه طمعًا في مضاعفة الأجر. لكن من الغريب أن نجد بعضهم يحرص على حضور الصلوات الجهرية والتراويح أكثر من حرصه على الصلوات المفروضة! ورغم وجود خلاف فقهي حول مضاعفة أجر صلاة التطوع في الحرم، إلا أن الصلاة المفروضة بلا شك أعظم أجرًا وأهم في ميزان الأعمال. ومن العجيب أن نجد البعض يقصر ويجمع صلاة الظهر والعصر في سكنه القريب من المسجد الحرام، بحجة السفر! وإن كان بعض العلماء يجيز ذلك، إلا أنه لا يليق بمن يُقتدى بهم أن يتساهلوا في أداء الفرائض بهذه الطريقة.
رمضان مدرسة للتغيير الحقيقي
رمضان ليس مجرد شهر للصيام والقيام فحسب، بل هو مدرسة روحية متكاملة تهدف إلى تربية النفس، وتعزيز التقوى، وتحقيق التغيير الإيجابي في حياة المسلم. فهو فرصة لمراجعة الذات، وتقويم العادات، والتخلي عن السلبيات التي تعيق القرب من الله. والسؤال الذي ينبغي أن يطرحه كل واحد منا على نفسه: هل أخرج من رمضان بنفس الحال التي دخلت بها؟ أم أن هناك أثرًا إيجابيًا استلهمته من هذا الشهر الكريم؟
الانضباط في العبادة والاستمرارية بعد رمضان
من المشكلات التي يقع فيها كثير من الناس، حتى طلاب العلم والدعاة، أن التزامهم بالعبادات والطاعات يكون مرتبطًا بشهر رمضان فقط، فيجتهدون فيه، ثم ما يلبثون أن يعودوا إلى التقصير بعد انتهائه. وكأن رمضان موسم مؤقت للطاعة، لا أسلوب حياة دائم. ولكن الحقيقة أن رمضان يأتي ليكون انطلاقة جديدة نحو الالتزام والاستمرارية في العبادة، وليس محطة مؤقتة يعود بعدها الإنسان إلى ما كان عليه من إهمال.
وإذا تأملنا سيرة السلف الصالح، نجد أنهم كانوا يحرصون على استمرارية الأعمال الصالحة بعد رمضان، فقد قيل عنهم: “كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم رمضان.” فهذا يدل على أن روح رمضان تبقى معهم طيلة العام.
النية الصادقة والتجديد المستمر
الإخلاص لله هو الركيزة الأساسية لأي عبادة، فكم من الناس يصومون ويصلون، لكن أعمالهم تذهب هباءً بسبب ضعف الإخلاص أو الرياء. لذلك، لا بد أن يجدد المسلم نيته باستمرار، ويسأل نفسه: لماذا أصوم؟ لماذا أقوم؟ لماذا أقرأ القرآن؟ هل أبحث عن رضا الله أم مجرد تحقيق عادات اجتماعية؟
إن إخلاص النية يجعل العبادة ذات تأثير عميق في حياة الإنسان، ويعينه على الاستمرار في الطاعة حتى بعد انتهاء رمضان. ولهذا قال النبي ﷺ: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.”

كيف نحافظ على روح رمضان طوال العام؟
لكي لا تكون الطاعات في رمضان مجرد مرحلة عابرة، يجب اتباع بعض الوسائل العملية التي تساعد على الاستمرارية بعده، ومنها:
1. المحافظة على الصلاة في وقتها: فهي الركن الأساسي الذي يبني عليه المؤمن علاقته بالله، فلا يجوز التساهل فيها بعد رمضان.
2. الاستمرار في تلاوة القرآن: فالقرآن الذي كنا نختمه في رمضان لا يجب أن يُهجر بعده، بل يمكن تخصيص وقت يومي ولو بسيط للتلاوة والتدبر.
3. صيام النوافل: مثل صيام ستة أيام من شوال، والاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، فذلك يربط القلب بالطاعة.
4. قيام الليل بين الحين والآخر: حتى لو لم يكن بنفس عدد الركعات في رمضان، فإن المواظبة على ركعتين في الليل باب عظيم للقرب من الله.
5. الاستمرار في الصدقة والإحسان: فالكرم والسخاء لا يجب أن يكونا فقط في رمضان، بل يجب أن يبقى المسلم معطاءً طوال العام.
6. مراقبة الوقت والحرص عليه: فمن أعظم دروس رمضان تعلم الانضباط، وعدم إضاعة الوقت فيما لا ينفع
خاتمة: رمضان نقطة تحول لا محطة عبور
إن أعظم نجاح يحققه المسلم في رمضان هو أن يخرج منه بروح جديدة، بنفسٍ أقرب إلى الله، وبإرادة أقوى لمواصلة الطريق نحو الجنة. فلنجعل من رمضان نقطة تحول حقيقية، لا مجرد محطة عبور، ولنحرص على أن تبقى آثاره معنا حتى نلقى الله بأفضل حال.
نسأل الله أن يجعلنا ممن قُبِل صيامهم وقيامهم، وأن يرزقنا الثبات بعد رمضان، وأن يجعلنا من عتقائه من النار.
نسأل الله -عز وجل- أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يجعلنا بعد رمضان أفضل مما كنا قبله. فرمضان ليس مجرد طقوسٍ تُؤدّى، بل فرصة عظيمة للارتقاء الإيماني وتجديد العهد مع الله.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.