رسالة إلى أئمة المساجد بمناسبة شهر رمضان المبارك
رسالة إلي أئمة المساجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فهذا خطاب أوجهه إلى كل من شرفه الله تعالى بمهمة إمامة المسلمين في الصلاة، لا سيما في هذا الشهر الفضيل، متناولًا فيه بعض التوجيهات المهمة التي رأيت أن الحاجة تدعو إلى بيانها، استنادًا إلى ما لاحظته من أمور تحتاج إلى تصحيح بين بعض الأئمة في هذا العصر. وما أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله.
أولًا: أهمية تلاوة القرآن في صلاة التراويح
يُعد شهر رمضان شهر القرآن، ومن أبرز شعائره تلاوة القرآن في صلاة التراويح، وقد أكد شيخ الإسلام ابن تيمية على ذلك بقوله: “التراويح سنة بإجماع المسلمين، وأحد أهم مقاصدها أن يسمع الناس كلام الله، فقد نزل القرآن في هذا الشهر، وكان جبريل يُدارس النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه القرآن”.
وعليه، ينبغي للإمام أن يراعي ما يلي:
1. القراءة بتواضع وبلا تصنع
يجب أن تكون القراءة طبيعية، بعيدة عن التكلف أو تقليد القراء، فالتلاوة السلسة الهادئة أقرب إلى القلوب، بينما التكلّف مرفوض شرعًا. وقد نص الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد على ضرورة تجنب تقليد الأصوات والاهتمام بجمال التلاوة الطبيعي الذي لا يخالف الأحكام الشرعية.
2. تجنب السرعة المفرطة
يجوز للإمام أن يقرأ بسرعة معتدلة، شرط عدم الإخلال بأحكام التجويد أو حذف الحروف، لأن التسريع المفرط الذي يؤدي إلى ضياع معاني الآيات أو تغيّر الحروف يعتبر تحريفًا للقرآن.
3. الخشوع في التلاوة
الله سبحانه وتعالى امتدح أهل الخشوع في قوله: (ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعًا) [الإسراء: 109]. والبكاء في الصلاة محمودٌ إن كان نابعًا من خشية الله، لكن التكلف في البكاء لإظهار التأثر مرفوض، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يُعرف بكاؤه في صلاته بصوت كأزيز المرجل، ولم يكن يظهر ذلك للناس عمدًا.
ثانيًا: عدد ركعات صلاة التراويح
السنة الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يصلي التراويح إحدى عشرة ركعة، كما ثبت في حديث عائشة -رضي الله عنها-: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعًا، ثم أربعًا، ثم ثلاثًا”.
وقد أقرّ الخليفة عمر بن الخطاب هذا العدد عندما جمع المسلمين على صلاة التراويح، لكن لا حرج على من زاد، طالما أنه يحافظ على الخشوع والطُّمأنينة.
ثالثًا: الحرص على الطمأنينة في الصلاة
ينبغي للإمام أن يكون حريصًا على أداء الصلاة بهدوء وخشوع، متجنبًا العجلة التي قد تؤدي إلى الإخلال بالطُّمأنينة، وهو ما قد يُرهق المصلين، خصوصًا كبار السن. فقد ورد عن السائب بن يزيد أنه قال: “كان القارئ يقرأ بالمئين حتى نعتمد على العصي من طول القيام”.
رابعًا: ضوابط دعاء القنوت
في دعاء القنوت خلال صلاة التراويح، على الإمام مراعاة ما يلي:
1. الالتزام بالأدعية الواردة في السنة
من الأفضل الاقتصار على الأدعية النبوية وتجنب المبالغة في السجع والتكلف. كما يُستحب أن يتضمن الدعاء طلب نصرة المسلمين عند الحاجة.
2. الاعتدال في الطول
ينبغي عدم إطالة دعاء القنوت بشكل يرهق المصلين، إذ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنكر على معاذ بن جبل -رضي الله عنه- عندما أطال في صلاة الفريضة.
3. الخشوع والتضرع بدون تصنع
يفضل أن يكون صوت الإمام في الدعاء معتدلًا دون تصنع أو تمطيط، لأن التضرع الحقيقي يكون أقرب إلى الإخلاص.
خامسًا: اختيار الجوامع من الدعاء
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحب الأدعية المختصرة الجامعة، كما روت عائشة -رضي الله عنها-: “كان رسول الله يستحب الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك”. ويستحب للإمام أن يبتدئ دعاءه بحمد الله والصلاة على النبي.
سادسًا: دعاء ختم القرآن
لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه خصص دعاءً لختم القرآن، وإنما كان يختم تلاوته بالدعاء عمومًا. وعليه، فإن تخصيص دعاء مطوّل لختم القرآن في صلاة التراويح ليس له أصل صريح في السنة. كما أن بعض الأئمة يُفرطون في إطالة دعاء الختم حتى يشغل وقتًا طويلًا، وهو ما يرهق المصلين، بل قد يتسبب في إعراض بعضهم عن الحضور.
سابعًا: استخدام مكبرات الصوت بحكمة
مكبرات الصوت من النعم التي يجب استخدامها بحكمة، بحيث لا تؤدي إلى التشويش على المساجد المجاورة أو إزعاج السكان. لذا، ينبغي مراعاة الأمور التالية:
1. ضبط مستوى الصوت
يجب ألا يكون الصوت مرتفعًا بشكل يزعج الآخرين، خصوصًا إذا كان هناك مساجد قريبة.
2. تجنب التشويش على المصلين
الصوت المرتفع جدًا داخل المسجد قد يزعج المصلين، ويؤثر على خشوعهم بدلاً من أن يساعدهم عليه.
3. وضع الميكروفون بطريقة مناسبة
من الأفضل أن يكون الميكروفون بعيدًا عن الفم، حتى لا يضطر الإمام إلى تحريكه كثيرًا أثناء الصلاة، مما قد يسبب حركة غير ضرورية
هذه بعض التوجيهات التي أرجو أن تكون عونًا للأئمة في أداء رسالتهم العظيمة خلال هذا الشهر المبارك. وأسأل الله تعالى أن يعينهم على القيام بهذه الأمانة على الوجه الذي يرضيه، وأن يكتب لهم الأجر والمثوبة.
ومن الأمور التي يجب أن يستحضرها الإمام دائمًا:
1. الإخلاص لله تعالى
لا ينبغي أن تكون الإمامة وسيلةً للشهرة أو التباهي بحسن الصوت، بل يجب أن تكون عبادةً خالصةً لله وحده. فالإمام مسؤول عن صلاته وعن صلاته من خلفه، وهو قدوة في خشوعه وسكينته.
2. الرفق بالمأمومين
يجب مراعاة أحوال المصلين، فلا يُطيل القراءة أو السجود بما يشقّ على كبار السن أو المرضى. وقد أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل -رضي الله عنه- حينما أطال الصلاة بقوله: “أفتّانٌ أنت يا معاذ؟” وهذا يدل على أهمية التيسير على الناس.
3. تحقيق التوازن بين الجمال والخشوع
يُستحب تحسين الصوت عند قراءة القرآن، لكن من غير تكلف أو مبالغة في التلحين الذي يخرج القراءة عن روحها. فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ بخشوع وبكاء، لكن دون تصنّع أو استعراض.
4. الاعتدال في القنوت والدعاء
ينبغي ألا يتحول الدعاء في صلاة التراويح إلى خطبة وعظية، ولا إلى سجعٍ متكلف، بل يجب أن يكون دعاءً نابعًا من القلب، خفيفًا على الأسماع، جامعًا لمعاني الخير والبركة.
5. الوعي بمقاصد الصلاة
ليس الغرض من صلاة التراويح إنهاء أجزاء من القرآن فحسب، بل التدبر في معانيه، والخروج منها بروح إيمانية متجددة. فالصلاة تهذيب للنفس ووسيلة للارتقاء بالروح، وينبغي أن يشعر بها الإمام قبل أن يُشعر بها من خلفه.
الدعاء للإمام والمصلين
أسأل الله العظيم أن يوفق الأئمة في أداء رسالتهم، وأن يرزقهم الإخلاص والخشوع، وأن يجعل صلاتهم سببًا في هداية الناس وزيادة إيمانهم
ونسأله سبحانه أن يجعل شهر رمضان فرصةً لنا جميعًا للتوبة، والقرب من الله، وتلاوة القرآن بتدبر، والعمل بما جاء فيه.
اللهم اجعلنا من المقبولين، وتقبل منا الصيام والقيام، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا، ولإخواننا وأخواتنا، ولجميع المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
مسؤولية الإمام في رمضان وما بعده
بعد انتهاء شهر رمضان، يستمر تأثير الإمام في حياة المصلين، فهو ليس فقط قائدًا لهم في الصلاة، بل هو أيضًا قدوة في التدين والالتزام بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-. لذا، من واجب الإمام أن يستمر في أداء دوره التوجيهي بعد رمضان بنفس الهمة والروحانية، ويحرص على ما يلي:
1. تشجيع المصلين على الاستمرار في الطاعات
ينبغي أن يوجه الإمام المصلين إلى أن العبادات لا تنتهي بانتهاء رمضان، بل تستمر طوال العام.
يحثّ الناس على صيام ستة أيام من شوال، والاستمرار في قراءة القرآن، والالتزام بصلاة الجماعة.
2. غرس روح التوبة والاستمرار في العبادة
لا ينبغي أن يكون شهر رمضان محطةً عابرةً للعبادة، بل يجب أن يكون بدايةً للالتزام الدائم.
تذكير المصلين بأهمية الاستغفار، والاستمرار في الدعاء، والإكثار من النوافل بعد رمضان.
3. الحرص على تقوية علاقة الناس بالقرآن
يجب أن يستمر الإمام في تعليم القرآن والتشجيع على ختمه مرة أخرى خلال العام.
تنظيم حلقات لتفسير القرآن وتدبر معانيه بعد صلاة الفجر أو العشاء.
4. المحافظة على الروحانية المكتسبة في رمضان
رمضان فرصة لتغيير العادات السيئة، لذا يجب أن يستمر الإمام في تحفيز المصلين على الالتزام بالمحافظة على الأخلاق الحميدة التي اكتسبوها في الشهر الكريم.
تذكير الناس بخطورة العودة إلى الذنوب بعد رمضان، لأن من علامات قبول الطاعة استمرارها بعد انتهائها.

دور الإمام في المجتمع بعد رمضان
إمامة الصلاة لا تقتصر على أداء الصلوات، بل تمتد إلى دور أوسع في المجتمع، ومن ذلك:
1. تعزيز روابط الأخوة بين المسلمين
الإمام مسؤول عن توحيد قلوب الناس، وتعزيز روح المحبة والألفة بينهم.
تنظيم لقاءات أو دروس تعزز القيم الإسلامية والأخلاق الفاضلة.
2. المساهمة في حل المشكلات الاجتماعية
الإمام يمكنه أن يكون وسيطًا في حل الخلافات بين أفراد المجتمع.
تقديم النصيحة والتوجيه لمن يحتاجون إلى المساعدة في أمور دينهم ودنياهم.
3. الاهتمام بتعليم الشباب والأطفال
إقامة برامج توعوية للشباب لحمايتهم من الأفكار المنحرفة.
تنظيم دورات تعليمية للأطفال في أحكام الصلاة والوضوء والآداب الإسلامية.
4. تشجيع المصلين على الاستمرار في العمل الصالح
بعد رمضان، قد يشعر بعض الناس بالفتور في العبادة، لذا من واجب الإمام أن يشجعهم على الاستمرار في الصلوات وقراءة القرآن والتقرب إلى الله.
يمكن تنظيم برامج لتحفيظ القرآن الكريم، وحث الناس على الصدقة ومساعدة الفقراء.
الخاتمة
ختامًا، إن إمامة الناس مسؤولية عظيمة تتطلب العلم والحكمة والرحمة، ولا تقتصر على رمضان فقط، بل تمتد طوال العام. فالناس بحاجة إلى من يوجههم، ويأخذ بأيديهم إلى طريق الخير، ويذكرهم بأهمية الاستمرار في الطاعة.
أسأل الله أن يوفق جميع الأئمة في أداء أمانتهم، وأن يجعلهم هداة مهتدين، ينيرون الطريق للناس، ويكونون قدوة صالحة في العلم والعمل.
اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين، ووفقنا لطاعتك، وثبّتنا على دينك، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.