رمضان غرة مواسم الطاعات
فرصة إعادة بناء النفس
العمر هو رأس مال الإنسان وثروته الحقيقية، وأهل الحكمة والتقوى يدركون جيدًا أهمية استثماره في الطاعات والقربات. ومن أعظم الخسائر أن يغفل المرء عن مواسم الخير أو يُضيّع فرص التقرب إلى الله. فلولا إدراك أصحاب البصائر لنفحات الله في تلك المواسم، لما وجدنا السابقين في الطاعة والمقرّبين إلى الرحمن. ومن المؤسف أن يدرك المرء رمضان ثم لا يُغفر له، أو يُفوّت بركاته فيما لا ينفع، فالصيام في هذا الشهر الكريم يُعدّ أعظم غنيمة يجنيها العبد على مدار حياته، إذ وعد الله فيه عباده المتقين بالعتق من النار.
الابتعاد عن الغفلة والانشغال بغير الله: نسأل الله أن يعيذنا من الانشغال بما يبعدنا عن ذكره، فكل ما يشغل العبد عن ربه يورث الخسارة والحرمان، والسعادة الحقيقية تكمن في الذكر والطاعة، بينما كل بلاء مصدره الغفلة والمعصية. والشفاء القلبي يكون بالإنابة الصادقة والتوبة النصوح.
يقول الله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7-8].
والنصب هنا يُشير إلى بذل الجهد بعد الفراغ من العبادة، كما جاء في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية: 2-3].
وقد فسّر الشيخ أبو بكر الجزائري هذه الآية بأنها منهجٌ للحياة الإسلامية، إذ ينبغي للمسلم أن يكون في نشاط مستمر، فحين يفرغ من عمل ديني، ينشغل بعمل دنيوي، وإذا فرغ من عمل دنيوي، انصرف إلى عمل أخروي. فمثلاً، بعد الصلاة يأتي الذكر والدعاء، وبعد ذلك الاهتمام بأمور الدنيا، وعند الفراغ من الجهاد يكون الحج أو غيره من أعمال البر.
استغلال العمر فيما ينفع: روى محمد بن أبي عميرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “لو أن رجلاً يخرُّ على وجهه منذ ولادته إلى موته في طاعة الله لاحتقر ذلك يوم القيامة، وودَّ لو عاد ليزيد من الأجر والثواب” [رواه أحمد وصححه الألباني].
وهذا يوضح مدى أهمية اغتنام العمر في الطاعات، وقد كان السلف يتواصون بقولهم: “اعمل في فراغك قبل شغلك، وفي شبابك قبل هرمك، وفي صحتك قبل مرضك، وفي دنياك لآخرتك، وفي حياتك قبل موتك”.
إن العاقل هو من يأخذ من دنياه لأخراه، ويستثمر عمره فيما ينفعه بعد موته، فالدنيا مزرعة الآخرة، ومن ضيّعها فقد خسر، فالنفس طماعة ويجب إلزامها بالقناعة، لأن الأعمار محدودة، والفرص معدودة، والرحيل حتمي، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من لم يعتبر إلا بنفسه.
مواسم الخير ونفحات الله: من رحمة الله أنه جعل لعباده مواسم خير تتنزل فيها رحماته، ليغتنمها التائبون، ويتنافس فيها الصالحون، ويتقرب فيها المؤمنون إلى الله. ولهذا كان السلف إذا جاء رمضان يقولون: “مرحبًا بالمُطهِّر”، فهو شهر التوبة والإنابة، وموسم العودة إلى الله.
يقول الإمام ابن رجب -رحمه الله-: “السعيد من اغتنم مواسم الخير وأيام الطاعات، وتقرّب إلى ربه بما فيها من أعمال البر، فقد تُصيبه نفحة من نفحات الله فيسعد بها سعادةً أبدية”.
أما ابن القيم، فيشبّه السنة بشجرة، شهورها فروعها، وأيامها أغصانها، وساعاتها أوراقها، وأنفاس العبد ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة، فثمرته طيبة، ومن كانت أنفاسه في معصية، فثمرته مرة كحنظل.
رمضان: شهر الرحمة والمغفرة: رمضان فرصة نادرة جمعت ألوان الطاعات من صيام وقيام وذكر وتلاوة قرآن واعتكاف وصدقة. فمن لا يقوى على عبادة، يجد أبوابًا أخرى للخير، ومن فاتته فرصة، يجد أخرى تنتظره.
فهو شهر الطهر والنقاء، حيث تصفو القلوب، وترقى الأرواح. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إذا جاء رمضان فُتّحت أبواب الجنة، وغُلّقت أبواب النار، وصُفّدت الشياطين، ونادى منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة” [الترمذي والحاكم].
وفيه ليلة القدر التي هي “خير من ألف شهر”، وفيها تتنزل الملائكة بالرحمة والبركة. وهي ليلة عظيمة شرف الله بها هذه الأمة، فمن قامها إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه.
الصيام مدرسة الروح: الصيام لا يقتصر على الامتناع عن الطعام والشراب، بل هو تربية للنفس، وكبح للشهوات، وتعويد لها على الصبر، وإحساس بآلام المحتاجين. لذا شرفه الله بأن نسبه إليه، فقال في الحديث القدسي: “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به” [رواه مسلم].
رمضان فرصة لإعادة بناء النفس وتجديد الإيمان
إن شهر رمضان ليس مجرد فترة زمنية تمر، بل هو فرصة عظيمة لإعادة بناء النفس وتطهير القلب، وتجديد العهد مع الله تعالى. ففي هذا الشهر يجد العبد نفسه أمام مدرسة إيمانية متكاملة، تعلّمه الصبر، وتزرع في قلبه التقوى، وتدعوه للارتقاء بروحه إلى آفاق السمو والصفاء.
تحقيق التقوى من خلال الصيام
يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
فالصيام ليس غاية بحد ذاته، بل هو وسيلة لتحقيق التقوى، وهي أعظم ما يحرزه العبد في الدنيا، إذ تكون سببًا في نيل رضا الله والفوز بجنته. فليس الصيام مجرد امتناع عن الطعام والشراب، وإنما هو امتناع عن كل ما يسيء إلى القلب والروح، من سوء خلق وكلام باطل وفعل محرم.
وقد جاء في الحديث الشريف: “من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” [البخاري].
فالصائم الحقيقي هو الذي يصوم قلبه ولسانه وجوارحه، فيتحقق له بذلك معنى التقوى.
الاجتهاد في العشر الأواخر وليلة القدر
كل ليالي رمضان مباركة، لكن العشر الأواخر لها خصوصية عظيمة، ففيها ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، وهي فرصة لا تعوض لمن أراد أن يُكتب من أهل الفضل عند الله. وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخلت العشر الأواخر، شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله، مجتهدًا في الطاعات والقيام والدعاء.
يقول صلى الله عليه وسلم: “تحرّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان” [البخاري ومسلم].
وفي حديث آخر: “من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه” [متفق عليه].
فهي ليلة عظيمة، من فاز بها نال خيرًا عظيمًا، ومن حُرم فضلها فقد خسر خسارة لا تعوض.

رمضان ساحة للبذل والعطاء
إن من أعظم ما يميز رمضان أنه موسم للجود والعطاء، ففيه تكثر الصدقات، وتزداد مساعدة المحتاجين، ويتسابق المسلمون في الخير. فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، كما جاء في الحديث: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة” [البخاري ومسلم].
فلا يكتمل الصيام إلا بالإحسان، ولا تصح العبادة إلا بالاهتمام بالفقراء والمساكين، ومن رحمة الله أن جعل في نهاية هذا الشهر العظيم زكاة الفطر، التي تُطهّر الصائم وتسد حاجة الفقراء.
الوداع الحزين لشهر رمضان
ما أسرع أيام رمضان! فكما بدأ، سينقضي سريعًا، لتبقى آثاره في نفوس من أدركوا فضله وعرفوا قيمته. والسعيد حقًا هو من استغل أيامه ولياليه في الطاعة والعبادة، فختمه وهو راضٍ عن نفسه، راجٍ من الله القبول.
كان السلف الصالح يبكون عند وداع رمضان، حزنًا على فراقه، وخوفًا من عدم قبول أعمالهم فيه. وكانوا يدعون الله ستة أشهر بعد رمضان أن يتقبله منهم، ويدعونه الستة أشهر التالية أن يبلغهم رمضان القادم.
رسالة لكل مسلم مع انتهاء رمضان
ها هو شهر رمضان يمضي، وها هي أيامه المباركة تودّعنا، فهل حققنا فيه ما نرجوه؟ وهل أخذنا منه زادًا يعيننا على طاعة الله في بقية العام؟ إن من علامات قبول العمل، أن يكون حال العبد بعد الطاعة أفضل من حاله قبلها، فمن كان بعد رمضان محافظًا على صلاته، مداومًا على ذكر الله، مستمرًا في قراءة القرآن، فليبشر بقبول عمله بإذن الله.
اللهم اجعلنا ممن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، وقام لياليه طلبًا لرحمتك، واغتنم لحظاته في طاعتك، واكتب لنا فيه العتق من النار.
اللهم تقبّل منا صيامنا وقيامنا، وأعد علينا رمضان أعوامًا عديدة، وأزمنة مديدة، ونحن في صحة وإيمان، وعفو وغفران، واجعلنا من المقبولين عندك، يا كريم يا رحمن.
ويُعدّ رمضان بمثابة محطة سنوية يتطهّر فيها العبد من الذنوب، حيث يجمع بين الصيام والقيام، وتلاوة القرآن، وذكر الرحمن، والصدقات والإحسان.
رسالة ختامية: ما أحوجنا إلى الاستفادة من هذا الشهر المبارك! فهو ميدان المتسابقين، ومتجر الصالحين، وفرصة العائدين إلى الله. فلنغتنم أيامه المعدودة، ولنحرص على التزوّد من الطاعات، فقد لا ندرك رمضان آخر. {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84].