بعد رمضان، لا تكن مثل فلان
لا تكن مثل فلان
*الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، فمن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:
عباد الله: إن مواسم الطاعات تعدُّ فرصًا عظيمة يتزود منها المؤمن بما يقوي إيمانه ويزيد تقواه، ليبقى قلبه عامرًا بالخير في كل الأوقات. فالمؤمن الحق لا ينقطع عن عبادة الله بعد انتهاء تلك المواسم، بل يحرص على الاستمرار في الطاعات كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان إذا عمل عملاً داوم عليه، إذ إن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ. فقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قائلاً: “لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل”، فبقي عبد الله محافظًا على عبادته حتى لقي الله.
أيها الأحبة: من صام وقام وتلا القرآن وتصدق في رمضان، لا ينبغي له أن يتكاسل بعده، فلا يكن أحدنا مثل من كان يسارع إلى الصلاة فتراخى، أو من كان يحرص على تلاوة القرآن والأذكار فتثاقل، أو من كان يجود بماله في الصدقات ثم أمسَك. فاحذروا من وساوس الشيطان الذي يحاول تثبيط العزائم، وداوموا على الأعمال الصالحة بعد رمضان، كقيام الليل، وصيام الأيام البيض، وصيام ست من شوال، والمحافظة على السنن الرواتب، والأذكار، وتلاوة القرآن، والإكثار من الدعاء والصدقات وسائر أبواب الخير، فما أجمل أن تتبع الحسنة بالحسنة، وما أعظم أن يستمر العبد في طاعة الله دون انقطاع!
فلنحرص على الاستمرار، ولنتجنب التفريط، فلا نستصغر أي عمل صالح، ولا نحتقر المعروف، ولا نهجر العبادة، حتى لا نكون كمن نقضت غزلها بعد أن أحكمته. فلا تتركوا قيام الليل ولو بركعة، ولا تهجروا تلاوة القرآن ولو بآية، ولا تفرطوا في الصيام ولو بيوم، ولا تبخلوا بالصدقة ولو بالقليل، فالصلاة تكفر الخطايا وترفع الدرجات، وكل حرف من القرآن بحسنة، وصيام يوم يبعد عن النار سبعين خريفًا، والصدقة تثقل الميزان. ومن زاد في الطاعة زاده الله من فضله، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمُ.
فاتقوا الله، واستعينوا به على الاستمرار في الطاعة، واصبروا على الثبات على الخير، وتجنبوا الذنوب والآثام، واستمروا على طريق الإيمان حتى الممات، فقد قال الله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
*الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونشكره ونعظّمه، وأصلي وأسلم على سيد المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين. أما بعد:
عباد الله: ما أعظم جزاء من جاهد نفسه واستقام على طاعة ربه، وثبت على أوامر الله تعالى ولم ينحرف عن طريق الحق، فقد قال الله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأحقاف: 13-14].
فاللهم ارزقنا الثبات على طاعتك، وأعنا على الاستقامة على دينك، وأبعدنا عن كل ما يسخطك، واجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم. اللهم وفقنا لطاعتك، وسدد خطانا، وأعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، واغفر لنا ولوالدينا وأهلينا والمسلمين أجمعين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إن الله وملائكته يصلون على النبي، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا”. فاللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

عباد الله، أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله في السر والعلن، فالتقوى هي وصية الله للأولين والآخرين، وهي مفتاح السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة. واعلموا أن الدنيا دار ابتلاء واختبار، والعمل فيها مستمر حتى يأتي الأجل، فاحرصوا على الطاعات، وابتعدوا عن المعاصي، واغتنموا الأوقات في مرضاة الله، فإنكم مسؤولون عن أعماركم فيما أفنيتموها، وعن أموالكم فيما أنفقتموها، وعن علمكم ماذا عملتم به، فليكن شعاركم دائمًا: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133].
فلا تجعلوا للكسل أو الفتور طريقًا إلى قلوبكم بعد أن ذقتم لذة العبادة في رمضان، ولا تكونوا ممن يعبد الله على حرف، بل كونوا من الثابتين على دينه حتى تلقوه، فخير الأعمال ما استمر وإن قل، ولا تحقروا أي عمل صالح، فإن الله يضاعف الحسنات، ولا تستصغروا أي ذنب، فإن الجبال من الحصى، وتذكروا أن الله يغفر الذنوب جميعًا إلا أن يشرك به، فاستغفروه وتوبوا إليه.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ووفقنا لما تحب وترضى، وخذ بنواصينا للبر والتقوى، وأحسن ختامنا، وأحينا حياة طيبة، وأمتنا على الإيمان والتوحيد، وارزقنا الفردوس الأعلى بغير حساب ولا سابقة عذاب.
ثم اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
وأقم الصلاة
(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].