الصوم ووحده الصف

رمضان بين مائدتين

رمضان بين مائدتين

*الخطبة الأولى

الحمد لله العليم الحكيم، الذي أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تُنير القلوب وترفع الدرجات، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين وهداية للسالكين، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

يا أمة الإسلام، يا أتباع النبي العدنان، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].

لقد أقبل علينا شهر رمضان، شهر البركات والرحمات، وها هو نوره يضيء القلوب بعد أن أظلمتها الذنوب، ويغسل الأرواح من أدران المعاصي، بعد أن أنهكتها مشاغل الحياة وشهواتها. رمضان، ذلك الضيف الكريم، الذي يحمل معه فرصة التجديد والانطلاقة نحو الطاعات، يفتح أبواب الجنان، ويغلق أبواب النيران، وينادي في القلوب: هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ هل من راغب في رحمة الله؟

فانقسم الناس عند قدومه إلى فئتين:

فئة أدركت قيمته، فسعت إلى اغتنامه، وأقبلت على الطاعات بقلوب صادقة، فهؤلاء هم الفائزون.

وفئة غفلت عن نفحاته، فانشغلت بالدنيا وزخارفها، وتركت الفرصة تمر دون أن تنتفع بها، فهؤلاء هم الخاسرون.

 

مائدة الرحمن في رمضان

لقد أعد الله لنا في رمضان مائدةً كريمةً عامرةً بالخيرات، لمن أراد أن يتزود لآخرته، فكم من رحمته التي سبقت غضبه، وكم من مغفرته التي تشمل التائبين، وهو القائل في الحديث القدسي: “يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتك بقرابها مغفرةً.”

وعلى هذه المائدة الربانية نجد:

الصيام: “من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه.”

القيام: “من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه.”

تلاوة القرآن: “من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها.”

الذكر والاستغفار: “من قال: سبحان الله وبحمده مئة مرة، حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر.”

وعلى هذه المائدة، ملائكةٌ تنادي: “يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.” وهي مائدة تضمّ أعمالًا يسيرةً بأجور عظيمة، تُبهج القلوب، وتطمئن النفوس، وترفع الدرجات، فمن ذا الذي يُعرض عنها وهو يعلم ما أعد الله لقاصديها؟

رمضان بين مائدتين
رمضان بين مائدتين

مائدة الشيطان في رمضان

لكن، وكما أن هناك مائدةً للرحمن، فقد أعد الشيطان وحزبه مائدةً أخرى، يزينونها لمن أرادوا إبعاده عن طريق الطاعة، وها هم في كل رمضان ينصبونها للغافلين، من لهو ومسلسلات وبرامج هدامة، تُشغل القلوب عن الذكر، وتُميت الروح، وتُضعف الصلة بالله.

هذه مائدةٌ هدفها إضاعة الأوقات، وهدر الطاعات، وإغراق الناس في الغفلة، حتى يصبح رمضان موسمًا للتسلية بدلًا من العبادة. وما كان لهذه الفتن أن تنتشر لولا أن وجدت من يُقبل عليها، في حين أن الله يأمرنا بغض الأبصار وحفظ الجوارح عن الحرام.

فبالله عليكم، أيّ الموائد أحق بالقبول؟ مائدةٌ تقود إلى الجنة، أم مائدةٌ تجر إلى الحسرة والندم؟!

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم

*الخطبة الثانية

يا عباد الله، من مائدة الرحمن ينبثق الإحسان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! ففي رمضان تتجلى رحمة الله، وتكثر أبواب الخير، ويفتح الله لمن أنفق وتصدق، وهو القائل: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون: 10].

ما أعذب الإحسان! وما أجمل العطاء! فكم من فقير ينتظر عطية المحسنين، وكم من محتاجٍ ينتظر يد المعين، فالزكاة والصدقة ليست مغرمًا، بل هي طهارةٌ للنفس، وزيادةٌ في البركة، وأجرٌ عظيم عند الله

فلا تحرموا أنفسكم هذا الخير، وأدّوا زكواتكم لمستحقيها، وتحرّوا الصادقين، وابتعدوا عن المخادعين، فمن بخل فإنما يبخل على نفسه، والله غنيٌ عن العالمين، وهو القائل: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) [المزمل: 20].

نسأل الله أن يجعلنا من المقبولين في هذا الشهر، وأن يوفقنا لاغتنام أوقاته، وأن يرزقنا القبول والإخلاص في القول والعمل.

اللهم اجعلنا من أهل الخير، وارزقنا توبةً نصوحًا، واغفر لنا ذنوبنا، ووفقنا لما تحب وترضى.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ختام الخطبة ودعاء جامع

الحمد لله الذي أكرمنا ببلوغ هذا الشهر العظيم، ونسأله سبحانه أن يجعلنا فيه من المقبولين، وأن يتقبل صيامنا وقيامنا ودعاءنا، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.

عباد الله، مع اقتراب وداع رمضان، دعونا نختم هذه الخطبة بدعاءٍ شاملٍ، نسأل الله فيه من فضله ورحمته:

اللهم يا واسع الفضل والإحسان، يا من وسعت رحمتك كل شيء، نسألك أن تختم لنا رمضان بالقبول والمغفرة، اللهم لا تجعلنا من المحرومين، ولا من المطرودين، اللهم اجعلنا ممن غفرت لهم، ورحمتهم، وكتبت لهم العتق من النار.

اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عنا، اللهم لا تخرجنا من رمضان إلا وقد أصلحت قلوبنا، وغفرت ذنوبنا، وسترت عيوبنا، وقضيت حوائجنا، وشفيت مرضانا، ورحمت موتانا، وتقبلت صالح أعمالنا.

اللهم اجعلنا ممن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا فغفرت له ما تقدم من ذنبه، وممن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا فغفرت له ذنوبه، اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، واكتبنا في ديوان السعداء الفائزين.

اللهم اجعلنا بعد رمضان كما كنا فيه من الطائعين، اللهم لا تجعل عبادتنا عادة، ولا صيامنا عادة، ولا قيامنا عادة، بل اجعلها عبادةً خالصةً لك يا الله، اللهم ثبّتنا على طاعتك، ووفقنا لما تحب وترضى.

اللهم ارحم ضعفنا، وتولَّ أمرنا، واغفر ذنوبنا، وتجاوز عن سيئاتنا، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر.

اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم اجعل هذا البلد وسائر بلاد المسلمين أمنًا وأمانًا وسلامًا، اللهم من أراد ببلادنا سوءًا فاجعل كيده في نحره، ورد كيده إلى نفسه، وأرنا فيه عجائب قدرتك يا قوي يا متين.

اللهم بارك لنا في أعمارنا، وأعمالنا، وأرزاقنا، وأصلح لنا شأننا كله، واغفر لنا ولوالدينا، ولمن له حقٌ علينا، ولجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، وخير أعمارنا آخرها، وخير أرزاقنا أوفرها، وخير دعائنا مستجابًا، وخير أعمالنا مقبولة، وخير أوقاتنا في طاعتك.

اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا وللمسلمين والمسلمات، برحمتك يا أكرم الأكرمين.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله، اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

أقيموا الصلاة.

مزيد من الخواطر الرمضانية