رمضان سِيرةٌ ومسيرةٌ
رمضان: هدية إلهية للأمة الإسلامية
إنّ من رحمة الله العظيمة وفضله الواسع على هذه الأمة أن اصطفاها لتكون خير الأمم، كما قال تعالى:
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110].
ومن مظاهر هذا الفضل الإلهي أن منحها ميزات وخصائص لم تُعطَ لغيرها، ومن أعظم هذه النعم أنه أكرمها بشهر رمضان، ليكون رحمةً وهدايةً، وميدانًا لصقل النفوس وتهذيبها، حيث يربي الإنسان على ضبط شهواته، ويذكّره بضعفه وافتقاره إلى الله، فهو فرصة لتعزيز روح العبودية والانقياد للخالق، وإدراك مدى الحاجة إلى نعمه.
عظمة رمضان في السنة النبوية
لقد بيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- مكانة شهر رمضان وفضائله، وحثّنا على اغتنامه لتحقيق الغاية السامية من الصيام، وهي التقوى. فالتقوى هي جوهر الإيمان، وهي التي تدفع الإنسان لطاعة الله والابتعاد عن معصيته، والإكثار من الطاعات، واستثمار الأوقات المباركة في القربات. يقول الله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183].
قيام الليل: غذاء الروح وصفاء القلب
عند حلول شهر رمضان، نتذكر نعمة قيام الليل، التي أرادها الله تهذيبًا للنفوس، وتطهيرًا للأرواح، وسموًا بالقلب، حيث يجد العبد في الوقوف بين يدي ربه صفاءً عميقًا، وتصفيةً للقلب من شوائب الدنيا. فكما كان رمضان شهر نزول القرآن، فهو كذلك شهر التدبر والاستجابة له، حيث يقبل المسلمون على تلاوته والتأمل في معانيه، لأنه نور وهداية، ودليل إلى الخير والصراط المستقيم، كما قال تعالى:
(قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة: 15-16].
التقوى: ثمرة الصيام الكبرى
التقوى هي عنوان الصلاح في الدين والدنيا، وهي التي تجمع كل خير، وتحجز عن كل شر. لذلك جعلها الله ميزان التفاضل بين البشر، فقال:
(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13].
والصيام وسيلة لتحقيق التقوى، فهو يكبح جماح النفس، ويطهر القلب، ويمنح الإنسان قوة الإرادة على تجاوز الشهوات. وقد بيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الصيام حصنٌ يحمي صاحبه من الوقوع في المعاصي، فقال:
“الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ…” (رواه البخاري).
إن الصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو ترويضٌ للنفس، وكبحٌ للشهوات، وإصلاحٌ للقلب والسلوك، بحيث يصبح الصائم إنسانًا أكثر وعيًا وقربًا من الله.
رمضان: ميدان التنافس في الخيرات
مع قدوم هذا الشهر الكريم، نجد أنفسنا أمام فرصة ذهبية للارتقاء بالروح، حيث تتفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، ويُصفَّد الشياطين، وينادي منادٍ: “يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.” (رواه الترمذي).
فهو ميدانٌ للتنافس في الطاعات، من صيام وقيام، وصدقات وبر، وصلة أرحام، وتلاوة القرآن، وإطعام المحتاجين. وقد نوّع الله أبواب الخير في هذا الشهر حتى لا يُحرم أحد من فضل الطاعة.
وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-:
“الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، فَيُشَفَّعَانِ.” (رواه أحمد).
فما أعظمها من بشارة لمن اغتنم هذه الأيام المباركة في الطاعات والقربات.
طوبى لمن استثمر أيام رمضان ولياليه في الخير، وجعلها محطةً لتجديد إيمانه، وتنقية قلبه، وتقوية صلته بالله. فمن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، وقام لياليه بخشوعٍ وتضرّع، واستغل لحظاته في ذكر الله والاستغفار، كان من الفائزين في الدنيا والآخرة.
ولكن، كم من صائم حرم نفسه من بركات الصيام، فجعل نهاره للنوم وليله للسهر، وأطلق لسانه في الغيبة والنميمة! فأي صيام هذا؟ وأي تقوى يرجوها من لم يضبط لسانه وعينه وسلوكه؟
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
“مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ.” (رواه البخاري).
فلنحرص على صيامٍ حقيقيٍّ، يُصلح قلوبنا، ويطهّر أعمالنا، ويرفع درجاتنا، حتى ننال رحمة الله وفضله، ونكون من الذين يخرجون من رمضان بقلوبٍ نقية وأرواحٍ صافية، ونفوسٍ متعلقةٍ بالله، مستعدةٍ للسير على طريق الهدى والرشاد.
اغتنام الفرص في رمضان والاستعداد لما بعده
مع اقتراب رحيل هذا الشهر الفضيل، يزداد إدراكنا لقيمته العظيمة، فقد كان مدرسةً ربانية تهذب النفوس، وتصقل الأرواح، وتعزز الإيمان. ولكن التحدي الحقيقي يكمن فيما بعد رمضان، فهل ستستمر ثمار هذا الشهر في حياتنا؟ هل ستبقى نفوسنا على صلتها بالله، وتستمر في الطاعة بعد انقضاء الموسم؟
إن العاقل من يجعل رمضان نقطة تحول في حياته، فيحرص على الاستمرار في الأعمال الصالحة بعده، ويجعل الصيام والقيام والذكر والاستغفار عاداتٍ دائمةً، فلا يكون ممن يعرف الله في رمضان فقط، بل يكون من عباد الله الدائمين على الطاعة في كل حين.

ما بعد رمضان: استمرار الطاعات وعدم الرجوع إلى الغفلة
بعد رمضان، ينبغي أن نحرص على عدم العودة إلى الغفلة والانشغال بالدنيا، فمن علامات قبول العمل الصالح، أن يوفق العبد للاستمرار عليه. ومن الطاعات التي ينبغي الحفاظ عليها:
1. المداومة على الصلاة في وقتها: فهي عماد الدين، وقد تعودنا في رمضان على المحافظة عليها، فكيف نتهاون فيها بعده؟
2. الصيام التطوعي: فمن صام رمضان ثم أتبعه بستٍ من شوال، كان كمن صام الدهر كله.
3. قيام الليل: فلا ينبغي أن نترك صلاة التهجد بعد رمضان، ولو بركعتين فقط، فهي تربي القلب وتزكي النفس.
4. قراءة القرآن وتدبره: ليبقى نور القرآن هاديًا لنا، فلا نهجره بعد أن كنا نأنس به في رمضان.
5. الاستمرار في الصدقة والإحسان: فالفقير والمحتاج لا يحتاج فقط في رمضان، بل حاجته مستمرة طوال العام.
6. ذكر الله والاستغفار: فبذكر الله تطمئن القلوب، ومن لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجًا.
احذر من هدم ما بنيت في رمضان!
من المؤسف أن يكون حال بعض الناس أنهم يجتهدون في رمضان في الطاعات، ثم بمجرد انقضائه يعودون إلى المعاصي والغفلة، وكأنهم لم يتعلموا شيئًا من رمضان!
وهذا ما حذرنا منه النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال:
“أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل” (رواه البخاري ومسلم).
فما فائدة أن يبني الإنسان في رمضان صرحًا من الطاعات، ثم يهدمه بعده بالمعاصي والغفلة؟ كن ممن استفاد من مدرسة رمضان، ولا تكن من الذين يعودون إلى سابق عهدهم من التقصير بعد انتهائه.
الخاتمة: رمضان محطة لا نهاية
رمضان ليس مجرد شهر عابر، بل هو محطة تزودٍ بالطاعة والإيمان، لنسير بها بقوة نحو بقية العام، حتى نلقى الله وهو راضٍ عنا.
فليكن رمضان نقطة تحول حقيقية، ولنتخذ منه درسًا في مجاهدة النفس، والتقرب من الله، والإحسان للناس، وليكن وداعه بداية عهد جديد مع الطاعات، لا نهايةً للأعمال الصالحة.
نسأل الله أن يثبتنا بعد رمضان، وأن يجعلنا من المقبولين، وأن يعيد علينا رمضان أعوامًا عديدة، وأزمنة مديدة، ونحن في صحة وعافية وإيمان.
اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، وألهمنا حسن العمل والثبات عليه بعد رمضان، وأعد علينا هذا الشهر الفضيل أعوامًا عديدة ونحن في طاعتك ورضاك.
نسأل الله أن يوفقنا لصيام رمضان وقيامه، وأن يجعلنا من الفائزين ببركاته في الدنيا والآخرة.