رمضان بين عطاء المقبلين وحرمان المعرضين
رمضان بين إقبال الطائعين وإعراض الغافلين
الحمد لله الذي أنعم علينا بمواسم الخير، وفتح لنا أبواب الرحمة والمغفرة، وجعل شهر رمضان فرصة عظيمة للتقرب إليه ونيل الأجر العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أوصيكم – أيها الأحبة – ونفسي بتقوى الله، فإنها وصية الله لعباده حيث قال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119].
شهر رمضان: فرصة للطاعة أم موسم للغفلة؟
ها قد أقبل علينا شهر رمضان المبارك، الشهر الذي يتسابق فيه العابدون إلى الطاعات، ويتنافس فيه الصالحون في فعل الخيرات، فهو شهر القرآن والصيام والقيام، شهر الرحمة والغفران والعتق من النيران.
في هذا الشهر الكريم، تُفتح أبواب الجنة، وتُغلق أبواب النار، وتُصفد الشياطين، ويُمنح العبد فرصة جديدة للعودة إلى الله، ومع ذلك، نجد أن هناك من يغتنم هذه الأيام المباركة، فيزيد من عباداته، ويكثر من تلاوة القرآن، ويتسابق إلى الصدقات، بينما آخرون تمر عليهم أيام رمضان وكأنها أيام عادية، يغرقون في غفلتهم، وينشغلون باللهو والملذات، ويمر هذا الموسم العظيم عليهم دون أن يحرصوا على استغلاله، فيا لخسارتهم!
الفرق بين المقبلين والمعرضين
روى أبو واقد الليثي – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال عن ثلاثة رجال دخلوا المسجد:
أحدهم وجد مكانًا في الحلقة، فجلس ليستمع،
والثاني جلس خلفهم،
أما الثالث فأعرض وذهب بعيدًا،
فلما انتهى النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “أما الأول فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه.”
وهكذا حال الناس في رمضان؛ منهم من يتقرب إلى الله في كل لحظة، ومنهم من يقف في منتصف الطريق، ومنهم من يعرض ويضيع هذه الفرصة العظيمة.
اغتنام الفرصة قبل فوات الأوان
أيها المسلمون، إن الحياة مليئة بالفرص الثمينة، ولكن رمضان فرصة لا تتكرر إلا مرة في العام، فهو أيام معدودة تمضي سريعًا كالسحاب، فمن وفقه الله لاغتنامها، فقد فاز وربح، ومن ضيعها فقد خسر خسرانًا مبينًا.
روى أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إن هذا الشهر قد أتاكم، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حرم الخير كله.”
إنها دعوة لنا جميعًا لنستغل هذه الأيام، لنجتهد في الصلاة، والقيام، وتلاوة القرآن، والصدقة، والإحسان إلى الفقراء والمحتاجين، ولندع الله أن يعتق رقابنا من النار، فكم من أناس أدرَكوا رمضان العام الماضي، وهم اليوم في القبور، فلنحرص على ألا نكون من المحرومين.
الحذر من الغفلة والكسل
ومن الناس من يقضي ليله في اللهو والمسلسلات، وينشغل نهاره بالنوم والتكاسل عن الطاعات، وتمر عليه الأيام دون أن يشعر بقيمة هذا الشهر الفضيل، فليت هؤلاء يسألون أنفسهم: كيف سيكون حالهم إذا جاء رمضان القادم ولم يكونوا من الأحياء؟
قال النبي – صلى الله عليه وسلم – عندما صعد المنبر: “آمين، آمين، آمين”، فسأله الصحابة عن سبب ذلك، فقال: “أتاني جبريل فقال: من أدرك رمضان فلم يغفر له، فدخل النار، فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين.”
فهل يُعقل أن يمر رمضان على العبد، ويبقى محملًا بالذنوب دون أن يغفر الله له؟!
الخطبة الثانية: لنكن من الفائزين في رمضان
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله، فقد قال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
رمضان فرصة للمجاهدة لا للراحة
أيها المسلمون، لا تظنوا أن الذين وُفِّقوا للطاعات في رمضان قد نالوا ذلك بسهولة وراحة، بل هم أناس جاهدوا أنفسهم، وصبروا على الطاعة، وأقبلوا على الله بقلوبهم، فوفقهم الله وأعانهم.
قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].
فمن أراد أن يكون من الفائزين في رمضان، فلا بد أن يجاهد نفسه، وأن يتغلب على كسله، وأن يحرص على اغتنام كل لحظة في الطاعة.
السباق نحو الخير لا يتوقف
رمضان ليس فقط للصيام عن الطعام والشراب، بل هو موسم لتطهير القلوب، والتوبة الصادقة، والتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة.
قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج: 77].
فهنيئًا لمن ملأ رمضان بالصلاة والذكر، وسارع إلى أبواب الخير، وجعل قلبه معلقًا بالمساجد، فطوبى لمن صام نهاره وقام ليله، وأطعم جائعًا، وواسَى محتاجًا، وسامح من ظلمه، وسأل الله المغفرة والرحمة.
تحذير من الإعراض والحرمان
أما من انشغل عن رمضان باللهو والغفلة، وقضى لياليه أمام الشاشات، وأيامه في النوم والتقصير في الصلوات، فقد حُرم خيرًا عظيمًا.
قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له.”
فهل يرضى العاقل أن يكون من هؤلاء الذين تمر عليهم مواسم الرحمة وهم غافلون؟ وهل يفرط العبد في شهر يرفع فيه الدعاء، وتضاعف فيه الحسنات، ويعتق الله فيه رقاب عباده من النار؟!

أيها المسلمون، لا تزال أمامنا أيام مباركة، ولا تزال الفرصة قائمة، فمن قصَّر في أول رمضان، فليعوض ما فات، ومن غفل فليستيقظ، فإنما الأعمال بالخواتيم.
قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إنما الأعمال بالخواتيم.”
فلنسارع إلى التوبة، ولنحرص على الصلاة في أوقاتها، ولنكثر من تلاوة القرآن، ولنُخرج الصدقات، ولنرفع أكفنا بالدعاء، ولنستعد لليالي العشر الأخيرة، ففيها ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر.
اللهم بلغنا ليلة القدر، واكتبنا فيها من المقبولين، واغفر لنا ذنوبنا، وتقبل أعمالنا، وأصلح قلوبنا، ووفقنا لما تحب وترضى.
الدعاء وختام الخطبة
أيها المسلمون، لا يزال في رمضان متسع، ولا تزال أبواب الرحمة مفتوحة، فالله ينادي عباده كل ليلة: “هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟” فاغتنموا هذه الأيام والليالي المباركة، فإنها قد لا تعود علينا مرة أخرى.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عنا.
اللهم اجعلنا من المقبولين في هذا الشهر الفضيل، ووفقنا للصيام والقيام، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم اعتق رقابنا من النار، واغفر لنا ذنوبنا، وتقبل أعمالنا، وأصلح قلوبنا، واهدنا إلى صراطك المستقيم.
اللهم اجعل لنا من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن كل بلاء عافية، اللهم لا تخرجنا من رمضان إلا وقد غفرت لنا ورحمتنا وكتبت لنا العتق من النار.
اللهم وفقنا لقيام ليلة القدر، وارزقنا فضلها، وأعطنا فيها من الخير ما لا يخطر على قلب بشر.
اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين الذين رضيت عنهم وكتبت لهم الفردوس الأعلى.
اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا، ووفقنا للعمل الصالح في رمضان وبعد رمضان.
اللهم لا تجعل رمضان يمر علينا إلا وقد غفرت لنا ورحمتنا وأعتقت رقابنا من النار، واجعلنا من عتقائك في هذا الشهر الكريم.
اللهم اختم لنا بخير، واجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، ولا تقبض أرواحنا إلا وأنت راضٍ عنا.
عباد الله، أكثروا من ذكر الله، وأكثروا من الدعاء، واغتنموا كل لحظة من هذا الشهر المبارك، فإنكم لا تعلمون هل ستدركونه العام القادم أم لا.
اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
اللهم اجعل رمضان شاهدًا لنا لا علينا، وأعنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين أجمعين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ختامًا: لنستعد للسباق إلى الله
فلنحرص – أيها الأحبة – على اغتنام رمضان، ولنضاعف جهودنا في الطاعة، ولنبتعد عن الغفلة والكسل، قال الله تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133].
اللهم اجعلنا من المقبولين في هذا الشهر المبارك، ووفقنا للصيام والقيام على الوجه الذي يرضيك عنا، واغفر لنا ذنوبنا، واكتبنا من عتقائك من النار، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.