السنة في مقدار: صيام التطوع وقيام الليل وختم القرآن
مقدار التطوع وقيام الليل وختم القرآن
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
بتكليف من شيخنا عبد الرحمن البراك -حفظه الله-، قمتُ بدراسة ثلاث مسائل فقهية مهمة، وهي:
1. ما هو المقدار المشروع لصيام التطوع؟
2. ما هو المقدار المسنون لقيام الليل؟
3. ما هي المدة المستحبة لختم القرآن الكريم؟
وقد اجتهدت في البحث في هذه المسائل، مستعينًا بالنصوص الشرعية من القرآن والسنة، ومتتبعًا أقوال العلماء، وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، الذي تميز بتحقيقه العميق في مثل هذه المسائل. وقد وجدت أن نتائجي تتماشى مع ما ذهب إليه، ولله الحمد.
وفيما يلي خلاصة ما توصلت إليه، دون الخوض في تفاصيل الأدلة وأقوال المخالفين، رغبةً في الإيجاز وإيصال الفائدة. وقد عرضتُ هذه النتائج على شيخنا عبد الرحمن البراك -حفظه الله-، فأقرها واستحسنها.
المسألة الأولى: مقدار صيام التطوع
ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: “أفضل الصيام صيام داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا”، وهذا هو الحد الأعلى لصيام التطوع المستحب. وقد طلب عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- من النبي ﷺ الإذن في الزيادة على ذلك، فقال له النبي ﷺ: “لا أفضل من ذلك”، مما يدل على أن الزيادة غير مستحبة.
أما صيام الدهر (أي صيام جميع أيام السنة ما عدا العيدين)، فقد نهى عنه النبي ﷺ، وبيّن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنه لا يخلو من الكراهة، خاصة إذا كان يضعف البدن عن أداء الحقوق الأخرى. كما أن هناك فرقًا بين “صيام الدهر” و**”سرد الصيام”**، حيث إن السرد يعني صيام أيام متتابعة ثم الفطر، كما كان يفعل النبي ﷺ، وليس صيام السنة كلها.
المسألة الثانية: مقدار قيام الليل
في حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-، أوضح النبي ﷺ أن أفضل قيام الليل هو قيام نبي الله داود، حيث كان “ينام نصف الليل، ثم يقوم ثلثه، ثم ينام سدسه”. والأفضل لمن يستطيع أن يجعل قيامه في آخر الليل، أما من يخشى أن لا يتمكن، فالأولى له أن يوتر قبل النوم، كما أوصى النبي ﷺ أبا هريرة بذلك.
وقد جاء في القرآن الكريم: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ﴾ [المزمل: 20]، مما يدل على جواز الزيادة على الثلث، ولكن من غير إطالة الليل كله إلا في العشر الأواخر من رمضان، حيث يشرع الاجتهاد فيها.
بناءً على ذلك، فإن ما يروى عن بعض العباد بأنهم كانوا يصلون الفجر بوضوء العشاء لمدة أربعين سنة، يعد أمرًا غير مقبول شرعًا وعقلًا، حيث يحتاج الإنسان للنوم والراحة.
المسألة الثالثة: مدة ختم القرآن
جاء في حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي ﷺ أرشده إلى أن “يقرأ القرآن في سبعة أيام”، فطلب التخفيف فأجازه في ثلاثة، ثم قال له: “لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث”.
وهذا يدل على أن قراءة القرآن في أقل من ثلاثة أيام مكروهة، سواء في رمضان أو غيره، رغم أن بعض العلماء، مثل الحافظ ابن رجب، استثنوا المواسم الفاضلة من ذلك، ولكن لا دليل صريح يؤيد هذا الاستثناء.
رد الإشكالات الواردة في هذه المسائل
قد يُستشكل بأن بعض الصحابة أو العلماء خالفوا هذه الأحكام، ولكن يمكن تفسير ذلك بثلاثة أمور:
1. أن ما ينقل عنهم غير ثابت.
2. أنهم فعلوا ذلك في بعض الأحيان وليس على الدوام.
3. أنهم اجتهدوا في ذلك، ولكن اجتهادهم لم يكن مطابقًا لهدي النبي ﷺ.
إضافة بعض الفوائد والتوصيات
بعد استعراض هذه المسائل الثلاث، يتضح لنا أن اتباع هدي النبي ﷺ هو السبيل الأمثل في العبادات، وأن التوسط والاعتدال هو النهج الذي يحقق أعظم الفوائد دون مشقة زائدة أو تفريط.
وفي هذا السياق، يمكننا استخلاص بعض الفوائد والتوصيات:
1. الحرص على اتباع السنة وعدم التكلف:
فالنبي ﷺ كان أعبد الناس، ومع ذلك لم يكن يبالغ في العبادة لدرجة ترهقه أو تعجزه عن أداء واجباته الأخرى، بل كان دائمًا يوصي بالتوازن بين العبادات والراحة.
2. مراعاة القدرة الشخصية في العبادات:
ليس كل الناس يستطيعون صيام يوم وإفطار يوم، أو قيام ثلثي الليل، لذا ينبغي للإنسان أن يأخذ بما يناسب طاقته دون أن يشق على نفسه.
3. التدرج في العبادة وعدم التسرع في التشدد:
فمن أراد أن يزيد في الصيام أو القيام، فليبدأ بالتدريج، حتى لا يصاب بالفتور أو يترك العبادة بسبب المشقة.
4. الالتزام بالهدي النبوي في قراءة القرآن:
فقد دلنا النبي ﷺ على الطريقة المثلى لختم القرآن دون استعجال، حتى يحصل التدبر والفهم.

الدعوة إلى نشر العلم الصحيح
من المهم أن يتعلم المسلم العلم الشرعي من مصادره الصحيحة، وأن ينشره بين الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى لا يقع في الإفراط أو التفريط.
وقد كان الصحابة والتابعون -رضي الله عنهم- حريصين على نشر السنة كما تعلموها من النبي ﷺ، فنقلوا لنا هذه الأحكام والآداب العظيمة التي ينبغي لكل مسلم أن يحرص عليها.
ختامًا
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لاتباع سنة نبيه ﷺ في العبادات والمعاملات، وأن يجعلنا من المتبعين لهدي السلف الصالح. فإن العبرة ليست بكثرة الأعمال فحسب، بل بموافقتها للسنة وإخلاص النية فيها لله تعالى.
هذا ما تيسر جمعه وتلخيصه، فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان فيه خطأ أو تقصير فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
المعيار في هذه المسائل هو ما جاء في الكتاب والسنة، فهما الحجة الكبرى. قال النبي ﷺ: “تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا، كتاب الله وسنتي” (رواه الترمذي بسند حسن). وقال الإمام مالك -رحمه الله-: “كل يؤخذ منه ويرد إلا رسول الله ﷺ”.
هذا ما تيسر بيانه، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.