رمضان والتسابق إلى الخيرات
رمضان شهر الرحمة والتسابق إلى الخيرات
فرض الله الصيام لحكمة عظيمة، إذ يشعر الغني بمعاناة الفقير، ويدرك صاحب النعمة حال المحروم. وكما يُقال: “لا يعرف قيمة الشباب إلا الكهول، ولا يقدّر نعمة الصحة إلا من ذاق طعم المرض، ولا يدرك قيمة الحياة إلا من فارقها، ولا يشعر بجوع المحتاج إلا الصائم”.
ومع إطلالة الشهر المبارك، تحيط بنا نفحاته الإيمانية، فتمنح الفقير العون، وتختبر إيمان الصابرين، وتحثّ القلوب على التراحم والتآلف. حين يجوع الإنسان، تتهذب روحه، فيتحرك قلبه لمواساة المحتاج، ويمتد عطاءه لمسح دموع المحرومين. إنه نداء الله لعباده: حيّ على الصلاة، حيّ على العبادة، حيّ على الطاعة، حيّ على الصدقات، حيّ على تلاوة القرآن. هذا هو رمضان، شهر الخير الذي أُنزل فيه القرآن هدايةً ونورًا للناس.
الصدقة في رمضان أعظم أجرًا
إذا كانت الصدقة مطلوبةً في كل وقت، فإنها في رمضان تتضاعف بركتها، ويعظم أجرها. والصيام لا يقتصر على الامتناع عن الطعام والشراب، بل يشمل ضبط النفس، وحسن الخلق، والبعد عن النزاع. وقد أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- الصائم بقوله: “إذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو شتمه، فليقل: إني صائم” (رواه البخاري ومسلم).
الصيام عبادة خالصة لله
الصيام عبادة خالية من الرياء، فهو تربية للنفس على مراقبة الله، وتدريب على كبح الشهوات، والارتقاء بالروح إلى مرتبة الصفاء. وهو كذلك وسيلة لتعويد النفس على الصبر، إذ قالوا: “الصبر نصف الإيمان”. ولأن الصائم يذوق ألم الجوع، فإنه يصبح أكثر رحمة بالفقراء، وقد روي أن يوسف -عليه السلام- كان يصوم وهو على خزائن الأرض، فقيل له: لمَ تجوع وأنت تملك كل شيء؟ فقال: “أخاف أن أشبع فأنسى الجائع”.
الصيام تهذيب للنفس وتطهير للقلب
الصيام يغرس في النفس الأمانة والصدق والإخلاص، لأنه عبادة لا يطّلع عليها إلا الله. وهو شهر الخير الذي تتسابق فيه النفوس إلى الطاعات، فيكثر العطاء، وتزداد البركات، ويزكو العمل الصالح، فما يقدمه العبد لنفسه من خير يجده عند الله.
رمضان شهر الجود والكرم
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، لكنه كان يزداد جودًا في رمضان، كما في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة” (متفق عليه).
فضل العشر الأواخر وليلة القدر
على المسلم أن يجتهد في العشر الأواخر، ففي حديث عائشة -رضي الله عنها-: “كان إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر” (متفق عليه). ومعنى “شد المئزر” أنه كان يجتهد في العبادة، ويبتعد عن كل ما يشغله عنها.
ضبط اللسان في رمضان
الصائم يمتنع عن الحلال نهار رمضان طاعة لله، فلا يليق به أن يقع في المعاصي واللغو. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث؛ فإن سابّك أحد أو جهل عليك فقل إني صائم إني صائم” (رواه ابن خزيمة). كما حذّر من قول الزور، حيث قال: “من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” (رواه البخاري).
الدعاء في رمضان مستجاب
الدعاء عبادة عظيمة، وقد وعد الله عباده بالإجابة، فقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]. والصائم له دعوة لا ترد، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، والمظلوم” (رواه الترمذي).
رمضان فرصة عظيمة
رمضان موسمٌ للخير لا ينبغي أن يضيّعه المؤمن، فقد روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: “ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان، ولا أتى على المنافقين شهر شر من رمضان، وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة، وما يعد فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم” (رواه أحمد).
فلنغتنم أيامه ولياليه، ولنسابق إلى الخير، فربما يكون رمضان هذا هو آخر رمضان لنا، فهنيئًا لمن اغتنمه بالطاعات، وويلٌ لمن فرط فيه بالغفلات.
رمضان مدرسة تربوية وروحية
إن الصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو مدرسة يتعلم فيها المسلم الصبر، والإخلاص، والتقوى، وضبط النفس، وكبح الشهوات. فهو وسيلة لتطهير القلب وتنقية الروح، والارتقاء بالنفس إلى معارج الكمال الأخلاقي.
فالمؤمن حين يصوم، يُدرِّب نفسه على الصبر، ويتحكم في رغباته، ويتذكر أن الحياة دار اختبار، وأن النعيم الحقيقي في الآخرة، حيث قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
وقد أثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصيام، فوصفه بأنه “جنة” أي وقاية من المعاصي في الدنيا، ومن النار في الآخرة، فقال: “الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث يومئذ ولا يسخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم” (رواه البخاري ومسلم).
ليلة القدر كنز رمضان الثمين
إن أعظم ليالي رمضان هي ليلة القدر، التي تعدل العبادة فيها عبادة ألف شهر، كما قال الله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3].
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر طلبًا لهذه الليلة، ويحثّ أصحابه على تحريها، حيث قال: “من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه” (رواه البخاري ومسلم).
رمضان شهر العفو والتسامح
رمضان ليس فقط شهر الصيام والقيام، بل هو شهر الصفح والعفو والتسامح، فهو فرصة لغسل القلوب من الأحقاد، وتطهير النفوس من الضغائن، ومد جسور المحبة بين الناس.
وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “أفضل الصدقة إصلاح ذات البين” (رواه الطبراني). فليكن رمضان فرصة لنسيان الخصومات، ومد يد العفو لمن أخطأوا، فإن الجزاء عند الله عظيم.

الاعتكاف عزلة مع الله
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، وهو انقطاع عن الدنيا للتفرغ لعبادة الله، حيث قال الله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة: 125].
فالاعتكاف مدرسة للخشوع والتدبر، وفرصة لمراجعة النفس وتجديد العهد مع الله، حيث يبتعد الإنسان عن صخب الحياة ليخلو بربه، في أنس وسكينة.
كيف نستفيد من رمضان؟
لكي نخرج من رمضان بفائدة عظيمة، علينا أن نضع خطة واضحة تشمل:
1. المداومة على الصلاة: أداء الصلوات في وقتها، والمداومة على صلاة التراويح والقيام.
2. تلاوة القرآن: فشهر رمضان هو شهر القرآن، والفرصة المثلى لختمه وتدبر معانيه.
3. الإكثار من الذكر والدعاء: خاصة عند الإفطار والسحر، فقد وعد الله باستجابة دعاء الصائم.
4. إخراج الصدقات: فهناك الكثير من المحتاجين الذين ينتظرون دعمنا وعطايانا.
5. إصلاح العلاقات: فمن أراد رحمة الله، فليسارع بالعفو عن الناس، وطلب الصفح ممن أساء إليهم.
ختامًا: رمضان فرصة لا تعوّض
رمضان كنزٌ إلهي، من أدركه فقد نال فرصة عظيمة للتقرب إلى الله، ومن فرّط فيه فقد خسر خيرًا كثيرًا. فلنستغل هذا الشهر في الطاعة والعبادة، ولنحرص على أن نخرج منه بقلوب نقية، ونفوس مطمئنة، وأعمال صالحة تقرّبنا من الله.
نسأل الله أن يوفقنا لصيامه وقيامه، وأن يكتب لنا فيه الرحمة والمغفرة، وأن يجعلنا من عتقائه من النار. اللهم بلغنا رمضان وأعنا فيه على الصيام والقيام وصالح الأعمال.