رمضان شهر الحرية

مواصلة الطاعة بعد رمضان

الاستمرار في الطاعات بعد رمضان

الحمد لله الذي يمنُّ على عباده بمواسم الطاعات، ليختبر فيها الصادقين الساعين إلى مرضاته، ويميزهم عن أولئك الذين ينغمسون في الشهوات. نحمده – سبحانه – الذي جعل لنا أوقاتًا مباركة، تُضاعف فيها الحسنات، وترتفع بها الدرجات. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الحكيم في تدبيره، الكريم في عطائه. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، القائل في حديثه: “الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني”، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.

تأملوا في سرعة انقضاء الأيام

عباد الله، اتقوا الله وتأملوا في سرعة مرور الأيام والليالي، فالدنيا ليست سوى محطة عبور، وما العمر إلا لحظات معدودة، تنقضي سريعًا، ويبقى أثر الأعمال شاهدًا علينا يوم القيامة. فسارعوا إلى الخيرات قبل أن يدرككم الأجل، فتندموا حين لا ينفع الندم، كما قال الله تعالى:

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88-89].

لقد كنا بالأمس القريب نعيش في أجواء روحانية عظيمة، تتجلى فيها معاني التقوى والتنافس في الطاعات؛ حيث الصيام والقيام وتلاوة القرآن، والتصدق على الفقراء والمحتاجين. وكان ذلك في شهر رمضان، شهر الرحمة والمغفرة، حيث تُضاعف الأجور وتُعتق الرقاب من النار.

لكن، مع انقضاء رمضان، خرج أهل الجد والاجتهاد بثمرات طيّبة، وأُغدِقت عليهم الرحمة والمغفرة، بينما خرج المتكاسلون بالندم والخسارة. وهذا تجلٍّ لعدل الله – سبحانه – في عباده، حيث قال تعالى:

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [الجاثية: 21].

هل نعود إلى الغفلة بعد رمضان؟

يؤسفنا أن نجد بعض الناس يلتزمون بالعبادات في رمضان، فيحافظون على الصلوات، ويكثرون من قراءة القرآن والصدقات، ولكن بمجرد انتهاء الشهر الكريم يعودون إلى التكاسل والتفريط. وكأنما كانوا يعبدون رمضان، لا رب رمضان!

إن عبادة الله ليست محصورة في زمان معين، بل هي منهج حياة. قال النبي – صلى الله عليه وسلم -:

“الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر” [رواه مسلم].

ومن أعظم الكبائر التي يقع فيها بعض الناس بعد رمضان التهاون في الصلاة، رغم أنها الركن الأعظم بعد الشهادتين، فكيف يُقبل من شخص اجتهد في رمضان، ثم عاد إلى التفريط؟

الصالحون يفرحون بانتهاء رمضان

المؤمن الصادق لا يفرح بانقضاء رمضان لأنه انتهى، بل يفرح لأنه أتم عبادته وأدى ما أوجب الله عليه، فهو يرجو الثواب والمغفرة، ويستمر في طاعته بعد رمضان. قال تعالى:

﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ المِيثَاقَ ﴾ [الرعد: 20-21].

ولذلك، يحرص الصادقون على صيام الست من شوال، وصيام الاثنين والخميس، والأيام البيض، فهم يعلمون أن الفوز الحقيقي ليس في رمضان فقط، بل في الاستمرار على الطاعة طوال العام، حتى يأتيهم الأجل وهم على خير حال.

لا تؤجل الأعمال الصالحة

لقد مضى رمضان، وطويت صحائفه، فمن كان من المحسنين فليبشر بالخير، ومن كان من المقصرين فليتدارك نفسه قبل فوات الأوان. قال النبي – صلى الله عليه وسلم -:

“أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل” [متفق عليه].

ومن الأعمال التي يجب المسارعة إليها بعد رمضان:

1. قضاء ما فات من أيام الصيام بسبب عذر شرعي.

2. صيام ست من شوال، لما في ذلك من الأجر العظيم.

3. المحافظة على الصلوات في أوقاتها، فهي أساس الدين.

4. الإكثار من النوافل، فبها يكتمل الإيمان، كما في الحديث القدسي:

“وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه” [رواه البخاري].

5. المداومة على تلاوة القرآن، وعدم هجره بعد رمضان.

6. الإكثار من الصدقات، فإنها تطفئ غضب الرب.

حكم قضاء الصيام وصيام التطوع

من كان عليه قضاء أيام من رمضان، وجب عليه المبادرة بالقضاء قبل أن يصوم الست من شوال أو أي صيام تطوع آخر، لأن القضاء فرض، والتطوع نافلة. كما يجب على من نوى القضاء أن يعقد النية من الليل، وألا يفطر إلا لعذر، لأن صيام الفرض يختلف عن صيام النافلة.

أما صيام الست من شوال، فهو سُنّة مؤكدة، ويجوز صيامها متفرقة أو متتابعة، كما يجوز صيامها يوم الجمعة منفردًا، خلافًا لما يظنه البعض.

خاتمة

عباد الله، إن أيامنا قصيرة، وأعمارنا محدودة، لكن الله بفضله جعل لنا أعمالًا يسيرة، تعود علينا بأجور عظيمة. فكيف يليق بالمؤمن أن يُعرض عن هذه الفرص الثمينة؟ ألم يسأل نفسه: هل هو بحاجة إلى رحمة الله؟ هل هو بحاجة إلى مغفرته؟ هل هو بحاجة إلى دخول الجنة؟

مواصلة الطاعة بعد رمضان
مواصلة الطاعة بعد رمضان

فلنحرص جميعًا على طاعة الله في كل حين، ولنعلم أن الدنيا دار ممر، والآخرة دار قرار، كما قال تعالى:

﴿ وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 19].

فاللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، ووفقنا لطاعتك، وثبتنا على الاستقامة حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا.

اللهم اجعلنا من أهل الطاعة والاستقامة

اللهم إنا نسألك الثبات على دينك، والاستقامة على طاعتك، وأن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.

اللهم أصلح قلوبنا، واغفر ذنوبنا، وتقبل أعمالنا، ووفقنا للاستمرار في طاعتك بعد رمضان، واغفر لنا تقصيرنا وزلاتنا.

اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وأدخلنا الجنة برحمتك، واحشرنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

اللهم احفظ بلادنا وبلاد المسلمين من الفتن والمحن، ووفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وارزقنا الأمن والإيمان، والسلامة والإحسان.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا، ولمشايخنا، ولمن له حق علينا، ولكل من دعا لنا بخير، ووفقنا لما تحبه وترضاه.

عباد الله، تذكروا أن “الله لا يضيع أجر المحسنين”، وأن “من تقرب إلى الله شبرًا، تقرب الله إليه ذراعًا”، فبادروا إلى الطاعات، واغتنموا لحظات العمر في مرضاة الله.

هذا، وأكثروا من الصلاة والسلام على نبي الرحمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فقد أمركم الله بذلك في كتابه الكريم:

﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

عباد الله، اذكروا الله يذكركم، واشكروه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

هذا، وصلّوا وسلّموا على خير الأنام، فقد أمركم الله بذلك بقوله:

﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

مزيد من الخواطر الرمضانية