جَنَّةُ التراويح
جنة التراويح
من عبق رمضان وروحانياته الزكية، يمتد غصنٌ من أغصانه الوارفة ليصافح أهلَ البذل والعطاء، أولئك الذين يسعون لاغتنام فرص الخير، ويبحثون عن مواضع البر والإحسان، ليسقوا شجرة الإيمان حتى يشتد عودها، وتخضر أغصانها، وتتفتح أزهارها، وينتشر أريجها في الأرجاء.
وتحت ظل هذا الغصن الباسق، حيث يمتد ظلاله يمنة ويسرة، يجد المتسابقون إلى الخير جنةً من جنات الدنيا، تهدأ فيها القلوب المتعبة، وتطمئن الصدور الجريحة، وتغتسل العيون من غبار القسوة، فيكتسي الوجه بنور الطاعة، وينطلق الفكر محلّقًا في فضاءات التدبر، فيكسر أغلال الغفلة، ويفتح أبواب الفهم، وتنال الأذن حظها من سماع كلمات الله العذبة، التي تنساب في القلب كما تنساب الجداول في البساتين، وتأخذ الأقدام نصيبها من القيام الخاشع، استعدادًا ليوم تقف فيه بين يدي رب العالمين.
إنها صلاة التراويح، هبةٌ ربانية خصّ الله بها أهل رمضان.
عبادةٌ عظيمة تحرق الأوزار وتطهر القلوب، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه” [رواه البخاري ومسلم]. وهي صفة من صفات الأخيار الذين وصفهم الله بقوله: ﴿لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ [النور: 37].
هي القربة التي يشتاق إليها الصالحون، وكلما اقترب هلال رمضان زاد شوقهم واشتد حنينهم:
وأعظم ما يكون الشوق يوماً ♦♦♦ إذ أدّنت الخيام من الخيام
فما أجمل تلك الجموع التي تصطف بين يدي الله، منصتةً إلى آياته، لا تغادر مصلاها حتى يفرغ الإمام، محتسبةً أجرها عند الله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة” [رواه الترمذي وأبو داود].
وفي المقابل، هناك من غفل عن هذا الخير، وانشغل بأمور الدنيا، أو استسلم لوسائل اللهو، أو استغرق في مجالس الحديث واللغو، بينما أهل القيام في شأن آخر، يسابقون إلى الخيرات، ويتلذذون بلذة الطاعة، فهنيئًا لمن أدركهم، وحسرة على من ضيّع الفرصة ولم يكن معهم.
فيا من أكرمك الله بصيام رمضان، لا تحرم نفسك من قيامه، ولا تنظر إلى كثرة المعرضين عنه فتتأثر بهم، فإنهم لن يحمدوا لهوهم، وسيندمون حين لا ينفع الندم.
وإذا وفقك الله لصلاة التراويح، فأقبل عليها بقلبٍ حاضر واستعدادٍ تام، فخفف من طعامك وشرابك، فإن السباق يكون للخيل المضمرة، واحرص على الطهارة والنظافة، حتى لا تنفر منك الملائكة والصالحون، وسابق إلى الصفوف الأولى، ففضلها عظيم، وأعرِ سمعك وقلبك لآيات الله، فالتدبر هو مفتاح العمل، ومن وعى كلام الله، سكن في قلبه وأثمر في جوارحه.
فإذا أردت أن تكون من الفائزين في رمضان، فاجعل صلاة التراويح جنةً لروحك ورياضةً لقلبك، فهي ليست مجرد ركعات تؤدى، بل محطة إيمانية تتزود منها بالنور والقوة، وتجد فيها لذة القرب من الله، وطمأنينة المناجاة.
ومن أسرار هذه العبادة أنها تهذب النفس، وتسمو بالروح، وتزيد العبد تعلقًا بكلام ربه، فيعيش مع كل آية، ويتأمل معانيها، فتتبدد قسوة القلب، ويزول الغفلة، ويُفتح للعبد باب التدبر والعمل، ليخرج من رمضان بروح جديدة، ونفس طاهرة، وقلب مشرق بالإيمان.
فاجعل لنفسك نصيبًا من هذه النعمة العظيمة، وكن من السبّاقين إلى الصفوف الأولى، واحرص على إتمام الصلاة مع الإمام حتى تفوز بأجر قيام الليل كاملًا، وادع الله أن يجعلك من عتقائه من النار، ويثبتك على الطاعة بعد رمضان.
وإذا أردت أن تحصد بركات هذه الليالي، فاجعل قيامك خالصًا لله، وأقبل عليه بجوارح خاشعة، وقلب متدبر، ولسان ذاكر، فليس الهدف أن تؤدي الصلاة بجسدك فقط، بل أن تعيش معانيها، وتتلذذ بمناجاة ربك، فتخرج منها بروح أنقى وقلب أكثر طمأنينة.
إن أهل التراويح هم أهل الصفاء، استبدلوا لهو الغافلين بلذة الوقوف بين يدي الرحمن، وأدركوا أن أعظم سعادة هي القرب من الله، فكانت جوارحهم في الصلاة، وقلوبهم متعلقة بالرحمن، تفيض أعينهم بالدموع خشيةً وتذللًا، ويغمرهم الأمل في رحمة الله ومغفرته، فتسمو أرواحهم، وتزكو نفوسهم، وتتهيأ لاستقبال العشر الأواخر، حيث العتق من النيران والفوز بالجنان.

فيا أيها الحريص على الخير، إن كنت قد أقبلت على صيام النهار، فلا تفرّط في قيام الليل، وإن كنت قد ذقت لذة الطاعة، فلا تستبدلها بلذة زائلة، فليكن رمضانك موسمًا للارتقاء، وفرصةً لنيل العفو والرضا، ونافذةً تشرق منها أنوار الإيمان على قلبك.
وتذكّر أن من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه، فلا تحرم نفسك من هذا الفضل العظيم، ولا تجعل ثقل الأقدام يمنعك من وقفة هي أثمن من الدنيا وما فيها، ولا تستهن بركعات قليلة قد تكتب لك بها سعادة أبدية، فالفائز من استثمر هذه الليالي، والخاسر من ضيعها في غفلة ولهو.
فهنيئًا لمن تلألأ وجهه بنور الطاعة، وطوبى لمن امتلأت صحيفته بالسجود والقيام، ورحم الله من جعل رمضان بدايةً جديدةً في طريق الهداية والإحسان.
فما أعظم أن تخرج من هذا الشهر وقد غُفرت ذنوبك، وطُهّر قلبك، وقوي إيمانك، فاغتنم الفرصة، ولا تكن من النادمين.
ومن طلب الوصول لدار ليلى ♦♦♦ بغير طريقها وقعَ الضلالُ