منازل رمضان
رمضان: الضيف المبارك ومواقف الناس في استقباله
يحلُّ شهر رمضان المبارك ضيفًا عزيزًا على المسلمين، ليمنحهم فرصة عظيمة للتقرب إلى الله، ولكنه لا يلبث إلا أيامًا معدودات ثم يرحل، تاركًا أثره في نفوس من أدركوا قيمته. ومع قدومه، تتباين مواقف الناس في استقباله، وتختلف طريقتهم في التفاعل معه، فمنهم من يحتفي به كما يُحتفى بأغلى الأحباب، ومنهم من يراه مجرد فترة زمنية تمضي كما غيرها، ومنهم من يقابله بعدم اكتراث أو حتى بالجحود.
المؤمنون المنتظرون بشوق
هناك منازل تتلهف لرمضان، تستعد له بالشوق والفرح، وتعد الأيام والليالي انتظاره، فهو زائر كريم طال انتظاره، وموسم للطاعة والعبادة يملأ القلوب بالسكينة والراحة. هؤلاء يستقبلونه بحفاوة، ويغتنمون كل لحظة فيه، يعيشون أجواءه بروح مشرقة، ويتزودون منه زادًا ليوم اللقاء العظيم، فتمتلئ أجواؤهم بالبِشر، وحين يقترب الوداع، تفيض أعينهم بالدموع حزنًا على فراقه، وكأنهم يودعون أعز الأحبة.
كما قال الشاعر ابن المعذل:
“إن السرور تصرّمتْ أيامُه
مني وفارقني الحبيب المؤنسُ”
من يرونه موسمًا للأكل لا للعبادة
فريق آخر يستعد لقدوم رمضان من زاوية مختلفة تمامًا، فهو عندهم شهر الولائم والمأكولات، فيسارعون إلى الأسواق قبل حلوله، محملين عرباتهم بأنواع الطعام والشراب، وكأن الشهر جاء ليكون مهرجانًا للأكل، لا موسمًا للطاعة. ومع حلول رمضان، تمتد موائدهم العامرة، وتمتلئ بطونهم بألوان الأطعمة، فيثقل عليهم الصيام، وتطول عليهم الأيام، ويتحول الشهر الفضيل إلى عبء ثقيل، لا يكادون ينتظرون رحيله.
وفي خضمّ هذه العادات، يصبح رمضان فرصة ذهبية للتجار الذين يفرحون ليس بفضل هذا الشهر، ولكن بما يحققونه من أرباح نتيجة الاستهلاك المفرط لبعض الناس. هؤلاء لا يدركون الحكمة العميقة للصيام، فتراهم متكاسلين عن العبادات، مسارعين إلى اللهو والملذات، فتمضي ليالي الشهر دون أن يقطفوا من خيراته، ويخرج رمضان من حياتهم بلا أثر يُذكر.
كما صوَّر أحد الشعراء هذا المشهد قائلًا:
“ولما قضينا بالغِذا كلَّ حاجةٍ
وأوسعَ في الإسراف من هو آكلُ
فَتَرْنا عن الطاعات وامتدّ شهرنا
وفاتت ذوي التبذيرَ تلك الفضائلُ”
من لا يعترفون بقدسية الشهر
أما الفئة الثالثة، فهم الذين لا يعترفون بقدسية رمضان، ولا يعطونه مكانته الحقيقية. تراهم مفطرين في العلن أو الخفاء، لا فرق عندهم بين رمضان وغيره من الشهور. فهؤلاء تجاوزوا حدود الله، ولم يراعوا حرمة الشهر، وكأنهم لم يُخلقوا ليعبدوا ربهم، بل اتخذوا شهواتهم إلهًا لهم. فماذا سيكون موقفهم يوم يقفون بين يدي الله، وهم لم يكرموا ضيفه الكريم؟ وأي جواب سيملكون يوم يرون جزاء من صام وقام واغتنم أيام الشهر الفضيل؟
وكما قال الأديب:
“إذا أنتَ لم تزرع وأبصرت حاصداً
ندمتَ على التضييع في زمن البذر”
رمضان فرصة لا تعوّض
إن شهر رمضان ليس مجرد شهر عابر في التقويم، بل هو محطة روحانية عظيمة وفرصة لا تعوّض لتصفية القلوب وتجديد العهد مع الله. فالسعيد حقًا هو من أدرك قيمته واستغل كل لحظة فيه، والمحروم هو من مرّ عليه الشهر دون أن يغيّر شيئًا في حياته.
فالمؤمن الواعي يدرك أن رمضان ليس فقط صيامًا عن الطعام والشراب، بل هو صيام عن كل ما يغضب الله، هو فرصة للارتقاء بالنفس، وموسم لجهاد الروح ضد الشهوات والعادات السيئة. من فهم ذلك عاش رمضان بروح متجددة، واستقبله بشوق، وعاش أيامه في طمأنينة، وودّعه بدموع المحب الذي يتمنى لقاءه مرة أخرى.

وداع رمضان حزن الفراق وأمل اللقاء
وحين يوشك رمضان على الرحيل، يشعر المؤمن بشوقٍ جديد، لكنه هذه المرة ليس انتظارًا لقدوم الشهر، بل هو ألم فراقه. فتراه يسأل نفسه: هل استثمرت الشهر كما يجب؟ هل اغتنمت لياليه وأيامه؟ هل كنت من الفائزين أم من الغافلين؟
فإذا كان قد اجتهد، حمد الله وسأله القبول، وإذا كان قد قصّر، ندم وتمنى لو يعود به الزمن ليصلح تقصيره. لكنه يدرك أن الأمل لا يزال قائمًا، فربما يمنّ الله عليه بعمر جديد ليعيش رمضان القادم بروح مختلفة، فيكون من السابقين إلى الخيرات.
القرار بيدك!
في النهاية، رمضان ليس مجرد ضيف، بل هو رسالة لكل إنسان، تدعوه ليحدد موقفه:
هل سيكون من الذين يرحبون به بقلوب عامرة بالإيمان، فيخرجون منه بزادٍ روحي يبقى أثره مدى الحياة؟
أم سيكون من الذين يرونه موسمًا للطعام والتسلية، فيفقدون الفرصة الثمينة؟
أم سيكون – والعياذ بالله – من الذين لا يعترفون بحرمته، فيخرجون منه بخسارة لا تعوّض؟
القرار بيدك، وما تزرعه اليوم، ستحصده غدًا.. فاجعل رمضان نقطة تحول، لا مجرد محطة عابرة!
الخاتمة
هكذا تتباين مواقف الناس تجاه رمضان، بين من يكرمونه، فيكرمهم الله، ومن يغفلون عنه، فيحرمون من خيراته، ومن يجحدونه، فينالون الخسران. فكل إنسان يختار لنفسه منزله في رمضان، وما يزرعه في أيامه، سيحصده عند لقاء الله. فهنيئًا لمن اغتنم هذه الفرصة، وخسرانًا لمن ضيّعها!