رمضان يكشف لنا حقيقة أنفسنا!
حقيقة أنفسنا
في الأزمنة الماضية، كان الأثرياء وأصحاب القدرة المالية يعدّون موائد الإفطار للصائمين، حيث كانوا يرسلون خدمهم إلى الأسواق والطرقات قبل أذان المغرب بحثًا عن المحتاجين لدعوتهم للإفطار. وكان الخدم يبذلون جهدهم لإقناع الصائمين بالمشاركة، لدرجة أنهم في بعض الأحيان كانوا يلجؤون إلى الإلحاح الشديد، بل وحتى استخدام القوة في حال رفض أحدهم الدعوة!
هذه الظاهرة، رغم طرافتها، كانت شائعة في عصر الدولة الطولونية، حينما كان عدد السكان محدودًا، وكان الأغنياء يدركون مسؤولياتهم تجاه مجتمعهم، على عكس ما نراه اليوم حيث طغى الجشع والأنانية على الكثير من الأثرياء. ولكن بعيدًا عن المقارنات بين الماضي والحاضر، فإن مصر عبر العصور اشتهرت في رمضان بموائدها العامرة، سواء في بيوت الأثرياء أو حتى الموظفين البسطاء، كلٌّ حسب إمكانياته.
اللافت للنظر أن رمضان في مصر لم يكن فقط شهر العبادة، بل تحول عند البعض إلى موسم للمبالغة في إعداد الطعام، مما يشكل عبئًا على ميزانية الأسر. وقد لاحظ ذلك حتى الزوار الأجانب، مثل الزعيم الإسلامي الهندي “مولانا شوكت علي”، الذي زار مصر في رمضان عام 1931 وعلّق ساخرًا: “إن بقايا موائد المصريين تكفي لبناء المساجد والمدارس والمستشفيات”.
وهذا يدفعنا للتساؤل: إذا كان ما يُهدر من الطعام يمكن أن يسهم في مشاريع تنموية، فكم تبلغ قيمة الطعام الذي يُستهلك بالفعل؟! وهو ما يتناقض تمامًا مع فلسفة الصيام، التي تهدف إلى التقشف والتخفيف عن النفس، وليس الإسراف في الطعام من الإفطار حتى السحور، وكأننا نعوّض عن ساعات الصيام بنهمٍ شديد عند الإفطار.
ولأن مصر كانت دائمًا مؤثرة في العالم العربي، فقد انعكست هذه العادات على الدول المجاورة، وهو ما أشار إليه الشاعر العراقي معروف الرصافي، حينما انتقد المبالغة في الإفطار بقوله:
“ولكن لا أصوم صيامَ قومٍ، تكاثر في فطورهم الطعامُ
فإن وضح النهار طوَوا جياعًا، وقد نهموا إذا اختلط الظلامُ”
يعتقد البعض أن الإسراف في رمضان مبرر تحت شعار “رمضان كريم”، لكن الكرم يختلف تمامًا عن التبذير، فرسول الله ﷺ لم يكن يُفرط في الطعام أبدًا، بل كان يقتصد حتى في أشد الأوقات وفرة، كما روت السيدة عائشة -رضي الله عنها- أنه لم يشبع ثلاثة أيام متتالية طوال حياته، رغم أنه كان قادرًا على ذلك.
وفي ظل الأزمات الاقتصادية التي نمر بها، كان من الحكمة أن تتخذ الدولة إجراءات للحد من الإنفاق غير الضروري، مثل وقف استيراد الكماليات الرمضانية، وهو قرار تأخر كثيرًا، وينبغي أن يتبعه مزيد من الخطوات لضبط ميزانية الدولة. وعلى مستوى الأفراد، يجدر بكل أسرة أن تعيد النظر في نفقاتها، وتبدأ بالتحكم في مصاريف شهر رمضان، لأن الترشيد مسؤولية مشتركة، وليس فقط مسؤولية الحكومات.
رمضان شهر روحاني عظيم، لكننا للأسف حوّلناه إلى موسم للإسراف في الطعام والمسلسلات، بدلًا من التركيز على جوهره الحقيقي في العبادة والتهذيب الذاتي. وربما، لو أتيح لرمضان أن يتحدث، لكان أول ما يفعله هو أن يشتكينا لأنفسنا!
إن الواقع الذي نعيشه اليوم يتطلب منا وقفة جادة مع أنفسنا، فليس من المنطقي أن يتحول شهر الصيام والتقوى إلى شهر الإفراط في الاستهلاك والتبذير، وكأن الغاية منه ملء الموائد بأصناف الطعام بدلاً من تحقيق معاني الصبر والانضباط والتكافل الاجتماعي. فلو نظرنا إلى سيرة النبي ﷺ وصحابته الكرام، لوجدنا أن رمضان كان عندهم فرصة للتخفف من الدنيا والتقرب إلى الله، لا موسمًا للإنفاق المبالغ فيه.
وإذا تأملنا في حال الأمة الإسلامية اليوم، سنجد أن كثيرًا من المجتمعات تعاني من الفقر والحرمان، بينما في أماكن أخرى تُهدر أطنان من الطعام يوميًا في رمضان، في مشهد يدعو إلى الحزن والتأمل. كم من عائلة يمكن أن تعيش بأمان لو أننا فقط توقفنا عن التبذير؟ وكم من محتاج يمكن أن يجد قوت يومه لو أننا أعطينا الصدقة حقها بدلاً من الإنفاق على الولائم الفاخرة التي لا تؤكل كاملة؟

رمضان فرصة لإعادة ترتيب الأولويات، لتخفيف الأعباء عن كاهل الأسر، وتعزيز معاني العطاء والتكافل، والعودة إلى الجوهر الحقيقي للصيام، وهو تهذيب النفس وتقوية الإرادة. وهو أيضًا فرصة لنكون أكثر وعيًا في استهلاكنا، سواء في الطعام أو في غيره، فلا نسرف في المشتريات، ولا نجعل رمضان موسمًا لزيادة الأعباء المالية التي تستمر آثارها لما بعد الشهر الكريم.
ومن هنا، فإن المسؤولية تقع على عاتق الجميع، بدءًا من الأفراد الذين عليهم إعادة التفكير في عاداتهم الغذائية والاستهلاكية، مرورًا بالإعلام الذي ينبغي أن يركز على التوعية بدلاً من الترويج للإسراف، وصولًا إلى المؤسسات الدينية والاجتماعية التي يجب أن تلعب دورًا في توجيه الناس نحو الاستخدام الرشيد للموارد، بما يحقق روح رمضان الحقيقية.
لقد آن الأوان لنعود إلى فطرة الصيام الصحيحة، ونتذكر أن رمضان لم يُشرّع ليكون شهر التخمة، بل شهر الزهد والاعتدال والتقرب إلى الله، فهل نرتقي إلى مستوى هذه الرسالة، أم نظل أسرى لعادات خاطئة تحتاج إلى تصحيح؟