رسائل الوحدة في ظلال رمضان
دعوة للتأمل والتغيير
بسم الله الرحمن الرحيم
نحن أمة وحّدها الله بعد شتات، وجمع شملها بعد فرقة طويلة، فأعاد لها عزتها ومجدها بعد سنوات من الضياع قبل الإسلام. ثم أرسى لها دعائم الاستقرار والسعادة في دينها ودنياها، وكان من أهم هذه الدعائم الوحدة العامة، التي يجب أن تبقى متجذرة في قلوب الأفراد، وينعكس أثرها على المجتمع ككل.
ومن روعة هذا الدين أنه يستثمر كل فرصة لغرس روح الوحدة بين أبناء الأمة، ويعززها في جميع المناسبات وبشتى الوسائل.
وقد جاء عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب في الجابية فقال:
“يا أيها الناس، إني أقمت فيكم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب، حتى يحلف الرجل ولا يُستحلف، ويشهد الشاهد ولا يُستشهد. ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان. عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو مع الاثنين أبعد. من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، من سرّته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن”. (رواه الألباني في صحيح الجامع بسند صحيح عن عمر بن الخطاب).
رمضان والوحدة الإيمانية
يأتي رمضان ليؤكد على ضرورة الوحدة، إذ أنه ليس مجرد شهر للعبادة فقط، بل هو فرصة لترسيخ مفهوم التضامن والتآخي بين المسلمين. فالوحدة واجب شرعي لا خيار فيه، والتفرقة كارثة روحية تؤدي إلى تدهور المجتمعات، ولا يمكن لأي أعمال صالحة أن تعوض عن هذا الخلل.
إن رمضان يجمعنا على مائدة واحدة من القيم والمبادئ، ويُذيب الفوارق بين الطبقات، ويرسّخ مبدأ التكاتف بين المسلمين، وذلك عبر عدة مظاهر، منها:
1. الاجتماع على الإفطار والسحور: حيث يلتف الجميع حول موائد الطعام في جو من الألفة، بعد أن كان كل فرد يأكل وحيدًا أو مع أسرته في الأيام العادية.
2. الاجتماع على صلاة التراويح: فهذه العبادة تعطي معنى خاصًا للتلاحم، حيث يستشعر المسلم لذة العبادة الجماعية.
3. الاجتماع على القرآن: فدروس التلاوة والتدبر والمدارسة تُقرّب بين القلوب، وتوحد الهدف والغاية.
4. حلقات العلم: حيث يجلس الجميع في مجالس العلماء ينهلون من معين المعرفة، فيتفقهون في دينهم ويعملون بما تعلموا.
5. صلة الرحم والإحسان إلى الجيران: حيث يتعزز التواصل الاجتماعي، مما يزيل أسباب الخلاف والفرقة.
6. الاجتماع على زكاة الفطر: حيث يشارك الجميع في مشاعر العطاء والتراحم، مما يرسّخ مفهوم التكافل الاجتماعي.
عوائق الوحدة وضرورة تجاوزها
ورغم هذه الرسائل الواضحة التي يحملها رمضان، إلا أن الشيطان استطاع أن يزرع بذور التفرقة بين المسلمين، حتى في هذا الشهر المبارك، ومن أبرز مظاهر ذلك:
الاختلاف على بداية الشهر: وهو أمر كان من الممكن تجاوزه بالنظر إلى المسألة بعقلية ناضجة قائمة على التقوى.
التشتت في جهود الإصلاح: حيث نجد أن كثيرًا من العاملين في الحقل الإسلامي يعملون فرادى، متجاهلين أن الجهود الجماعية تحقق نتائج أعظم.
عدم تجاوز الخلافات الشخصية: حيث تظل الأحقاد والمشاحنات حاضرة، مما يؤدي إلى المزيد من الفرقة والضعف.
رسالة رمضان: توحيد الجهود والقلوب
رمضان يعلّمنا أن الوحدة مصدر للسعادة والقوة، بينما التفرقة مصدر للشقاء والضعف. ولهذا فإن كل من يعمل لخدمة الدين، سواء في مجال الدعوة أو التربية أو التعليم أو أي نشاط آخر، عليه أن يجعل من هذا الشهر الكريم فرصة لترسيخ مفهوم التعاون وتوحيد الصفوف.
إن رمضان لو نطق لقال لنا: “اتحدوا، لا تتفرقوا”. فهو شهر يجمع ولا يفرق، ويقرب القلوب بدلاً من أن يباعد بينها. فعلى الجميع أن يدركوا أن العمل للإسلام لا يجب أن يكون محصورًا في فئة معينة أو جماعة محددة، بل هو رسالة عامة لجميع المسلمين دون استثناء.
فلنرحم أمتنا بوحدتنا، ولندرك أن النجاح الحقيقي ليس في الانعزال والانفراد، وإنما في التعاون والتآزر لخدمة قضايا الأمة الكبرى.
رسائل رمضان: دعوة للتأمل والتغيير
إن رمضان ليس مجرد وقت للصيام والقيام، بل هو فرصة للتأمل في أحوال الأمة وإعادة النظر في أسباب ضعفها وتفرقها. فمن المؤسف أن نجد في كل عام نفس المشكلات تتكرر، والانقسامات تتجدد، وكأننا لم نتعلم شيئًا من دروس رمضان العظيمة.
إن من أعظم ما يجب أن نستخلصه من هذا الشهر الكريم هو ثقافة الوحدة، ليس فقط على مستوى الطاعات والعبادات، بل في كل مجالات الحياة، سواء في العائلة، أو المجتمع، أو الأمة بأسرها. فالتكاتف بين المسلمين ضرورة شرعية، وليس مجرد فضيلة يمكن الاستغناء عنها.
الوحدة ليست مجرد شعار، بل التزام وعمل
إن الوحدة ليست مجرد كلمات تُقال في الخطب والمواعظ، بل هي التزام حقيقي يظهر في أفعالنا وسلوكياتنا اليومية. فالمسلم الحقيقي هو الذي يسعى لتقوية أواصر المحبة بين إخوانه، ويبذل جهده لإصلاح ذات البين، ويتجنب كل ما يؤدي إلى الفرقة والخصام.
وفي هذا الصدد، نجد أن القرآن الكريم يحثنا على التماسك بقوله:
﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران: 103).
فلا يمكن أن تتحقق النهضة للأمة الإسلامية ما دامت منقسمة ومتفرقة، وما دام المسلمون ينشغلون بالخلافات الداخلية أكثر من انشغالهم بقضاياهم الكبرى.

ما بعد رمضان: استمرار رسالة الوحدة
إذا كنا في رمضان نعيش أجواء التلاحم والتراحم، فمن غير المنطقي أن نعود بعده إلى التفرق والتباعد وكأن شيئًا لم يكن. رمضان مدرسة تربوية تعلمنا أن النجاح الحقيقي يكمن في العمل الجماعي، وأن البركة في الاجتماع، وأن يد الله مع الجماعة.
ولهذا يجب أن نحمل معنا رسالة رمضان طوال العام، ونعمل على تطبيقها في حياتنا اليومية، سواء في بيوتنا أو مجتمعاتنا أو مؤسساتنا. يجب أن نحرص على بث روح المحبة والتعاون، وأن نكون مصدر سلام وإصلاح بين الناس، لا سببًا في زيادة الشقاق والنزاع.
ختامًا: دعوة للتفكر والتدبر
رمضان رسالة سماوية تذكرنا بحقيقة الحياة، وبقيمة الأخوة، وبأهمية الوحدة. فهل نعي هذه الرسائل؟ وهل نعمل بها؟ أم أننا سنظل ندور في دائرة الخلافات والانقسامات دون أن نتعلم من دروس التاريخ؟
أسأل الله أن يجعلنا من الذين يفهمون رسائل رمضان، ويعملون بها، ويساهمون في بناء أمة موحدة قوية متماسكة.
اللهم اجمع قلوب المسلمين على طاعتك، ووحد صفوفهم، وأزل أسباب الخلاف بينهم، واهدهم إلى صراطك المستقيم. آمين.
أسأل الله أن يوحد صفوف المسلمين، ويجمع قلوبهم على الخير، ويرزقهم البصيرة لفهم رسائل رمضان العظيمة.