رمضان شهر الاجتهاد والعطاء
شهر الاجتهاد والطاعة
العبادة والعمل في الإسلام متلازمان لا ينفصلان، فكما أن العبادة تقرب العبد إلى ربه، فإن العمل الصالح يعزز دوره في عمارة الأرض. فقد خلق الله الإنسان لعبادته، كما قال تعالى: “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” (الذاريات: 56). ومع ذلك، فإن الاستخلاف في الأرض وتحقيق التنمية جزء أساسي من هذه العبادة، حيث قال الله تعالى: “هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه” (هود: 61).
لذلك، ربط الله بين العبادة والسعي في الأرض، فجعل الصلاة وقتًا للعبادة، ثم أمر بالسعي والعمل بعد انتهائها، كما في قوله تعالى: “فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله” (الجمعة: 10). وكذلك النبي ﷺ لم يفصل بين الصوم والعمل، بل جعلهما متلازمين، فقد سُئل عن كثرة صيامه في شعبان، فأجاب: “ذلك شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يُرفع عملي وأنا صائم” (رواه النسائي وأحمد).
ومع ذلك، رفض النبي ﷺ أن يكون الصيام سببًا للتكاسل وترك العمل، كما في حديثه عندما رأى بعض الصحابة يواصلون الصيام رغم مشقته، فقال: “أولئك العصاة” (رواه مسلم). فالإسلام لا يدعو إلى الخمول في رمضان، بل يحث على الجد والاجتهاد.
رمضان شهر الإنجازات والعمل
يظن البعض أن رمضان شهر راحة، بينما التاريخ الإسلامي يثبت أنه شهر الانتصارات والعمل الجاد. فقد شهدت الأمة الإسلامية خلاله العديد من الفتوحات والمعارك الحاسمة، ومنها:
غزوة بدر (2هـ): كانت أولى المعارك الفاصلة بين الحق والباطل، حيث نصر الله المسلمين رغم قلة عددهم.
فتح مكة (8هـ): حين عاد النبي ﷺ إلى مكة فاتحًا، معلنًا تطهيرها من الشرك.
معركة البويب (13هـ): التي انتصر فيها المسلمون بقيادة المثنى بن حارثة على الفرس.
فتح الأندلس (92هـ): بقيادة طارق بن زياد، حيث فتح المسلمون بلاد الأندلس وأسسوا حضارة عظيمة.
فتح عمورية (223هـ): استجابة الخليفة المعتصم لنداء امرأة مسلمة استنجدت به، فقاد جيشًا عظيمًا لنصرة المسلمين.
معركة عين جالوت (658هـ): التي كسر فيها المسلمون شوكة المغول وأوقفوا زحفهم على العالم الإسلامي.
حرب العاشر من رمضان (1973م): عندما استطاع الجيش المصري والعربي استرداد سيناء من الاحتلال الصهيوني.
رمضان والعمل الجاد
المسلمون الأوائل لم يعتبروا رمضان شهرًا للكسل والخمول، بل شهرًا للجهاد والعمل والإنجاز. وكما قال عبد الله بن المبارك مخاطبًا العابدين في الحرم:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا … لعلمت أنك في العبادة تلعبُ
من كان يخضِبُ جيدَهُ بدموعه … فنحورنا بدمائنا تتخضَّبُ
فلنجعل من رمضان فرصة لإتقان العمل، لأن الإتقان جزء من التقوى، والتقوى هي الغاية الكبرى للصيام.
رمضان والتربية على التقوى والعمل الجاد
إن شهر رمضان ليس مجرد فترة للصيام والعبادة الفردية، بل هو مدرسة تربوية تغرس في المسلمين قيم الجد والاجتهاد والانضباط. فقد جعل الله تعالى من الصيام وسيلة لتربية النفس على الصبر، والإحساس بالمسؤولية، ومجاهدة الهوى، كما قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” (البقرة: 183).
وهذه التقوى لا تقتصر على الشعائر فقط، بل تمتد إلى إتقان العمل، وبذل الجهد في كل مجالات الحياة. فالمسلم المخلص لا يجعل الصيام عذرًا للكسل، بل يستمد منه القوة للإنجاز، كما كان حال الصحابة والتابعين الذين خاضوا أعظم الفتوحات والانتصارات في هذا الشهر الكريم.

رمضان فرصة للنهوض بالأمة
إذا فهم المسلمون اليوم رمضان كما فهمه الأوائل، فإنه سيكون شهر الإنجاز والعمل لا شهر النوم والكسل. ومن صور ذلك:
1. إتقان العمل: سواء في الوظائف أو المشاريع أو الأعمال التطوعية، فإتقان العمل من علامات التقوى.
2. استغلال الوقت: بدلاً من إضاعته في السهر والراحة المفرطة، يمكن استثماره في التعلم والتطوير الذاتي.
3. نشر الخير: عبر العطاء والتكافل الاجتماعي، ومساعدة المحتاجين، وهو من أهم مقاصد الصيام.
4. الجهاد في سبيل النجاح: سواء في طلب العلم، أو بناء المجتمعات، أو الدفاع عن القيم الإسلامية.
خاتمة
لقد أثبت التاريخ أن رمضان ليس شهرًا للركود، بل هو شهر الانتصارات العظيمة، حين يستمد المسلمون من صيامهم القوة، ومن إيمانهم العزيمة. فكما كان رمضان شهرًا للجهاد في ميادين المعارك، فهو أيضًا شهر للجهاد في ميادين العمل والتقدم، وتحقيق نهضة الأمة.
فلنجعل من رمضان فرصة لتجديد العهد مع الله، والارتقاء في ميادين العبادة والعمل، حتى نحقق المقصد الأسمى من الخلق، وهو عبادة الله وعمارة الأرض.