خطبة: كيف نُحسن الاستعداد لرمضان؟ رحلة روحية نحو شهر الرحمة
الاستعداد لرمضان
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي بلّغنا مواسم الخير والرحمة، وجعل لنا في الأيام والليالي فرصًا للعودة إليه، نحمده ونشكره، ونسأله أن يبارك لنا في أيامنا ويجعلها مليئة بالطاعات.
عباد الله، عن أي ضيفٍ أتحدث اليوم؟!
الأيام تمضي، والشهور تتعاقب، والسنوات تتوالى، ومع ذلك يبقى هذا الضيف الكريم حاملاً معه نسمات الخير والبركة.
في مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم، كانت البشائر تُزَفُّ إلى الصحابة رضوان الله عليهم، حين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
“أتاكم رمضان، شهر مبارك، فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حرم”.
يقول الإمام ابن رجب رحمه الله: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضًا بقدوم رمضان، وكيف لا يُبشَّر المؤمن بهذا الشهر المبارك؟ كيف لا يفرح المذنب بإغلاق أبواب النيران؟ وكيف لا يتأهب العاقل لشهر تُصفَّد فيه الشياطين؟
أيها الأحبة، أين فرحتكم برمضان؟ وأين شوقكم لهذا الشهر الفضيل؟ إن الأيام تمضي بسرعة، ويقترب منا موسم الرحمة والمغفرة، فهل أعددنا أنفسنا لاستقباله؟
تخيلوا أحب الناس إليكم، وقد غاب عنكم عامًا كاملًا، ثم أُخبِرتم بقرب عودته، كيف سيكون شعوركم؟ كذلك رمضان، يزورنا مرة كل عام، فهل استعددنا له كما ينبغي؟
إن أول ما يجب علينا في استقبال رمضان أن نستعد له بقلوب تملؤها الفرحة، ونفوسٍ تواقة لاستثماره في الطاعات، وهذا من تعظيم شعائر الله، كما قال سبحانه:
{ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}.
فرح المؤمنون بقدوم رمضان هو علامة إيمانهم، فهم يعلمون أن في هذا الشهر فرصًا عظيمة للتوبة والعتق من النار، ولذلك يبتهلون إلى الله بالدعاء أن يبلّغهم إياه، كما كان السلف الصالح يدعون:
“اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلاً”.
أيها الأحبة، هل تدبرتم يومًا فضل من أدرك رمضان؟ تأملوا هذه القصة العجيبة:
يروي الإمام أحمد وابن ماجه أن رجلين من بني بَلِي جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلما معًا، وكان أحدهما أكثر اجتهادًا في العبادة، فخرج للجهاد واستُشهد، بينما الآخر عاش بعده سنة كاملة ثم تُوفي، فرآهما طلحة بن عبيد الله في المنام، فإذا بالذي مات متأخرًا يدخل الجنة قبل الشهيد! فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال:
“أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ وأدرك رمضان فصامه، وصلى كذا وكذا سجدة؟ فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض!”.
الله أكبر! إدراك رمضان وصيامه وقيامه نعمة عظيمة قد يسبق بها الإنسان حتى الشهداء في سبيل الله!
فلنستعد لهذا الشهر العظيم بتوبة صادقة وعزم صادق على استثماره بالطاعات، ولنتذكر أن رمضان أيام معدودة، سريع الرحيل، فمن اغتنمه سعد، ومن فرط فيه ندم!
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خصّ رمضان بالخيرات، وجعله شهر الرحمة والبركات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله، ونحن على أعتاب رمضان، ماذا أعددنا لاستقباله؟ هل خططنا لكيفية استغلاله في الطاعات؟ هل أعددنا قلوبنا وأرواحنا لتجديد علاقتنا بالله؟
الإمساك عن الطعام والشراب يقدر عليه كل صائم، ولكن الإخلاص في الصيام وصدق العبادة لا يحققه إلا القلة الموفقة، كما قال تعالى:
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.
فشتان بين من لا يتجاوز اهتمامه في رمضان تكديس الأطعمة والمشروبات، ومن يجعل جلَّ اهتمامه تغذية الروح، وتزكية النفس، والإقبال على الله بصدق!
ولكي نحسن استقبال رمضان، لا بد من إعداد مبكر، وأهم ما يمكن القيام به:
1. التوبة الصادقة: لنبدأ رمضان بقلوب نقية، ونستكثر من الاستغفار، فمن أدرك رمضان ولم يُغفر له، فقد خسر خسرانًا عظيمًا.
2. تعلم أحكام الصيام: لنجتهد في معرفة فقه الصيام وآدابه، حتى يكون صومنا صحيحًا مقبولًا عند الله.
3. التخطيط لاستغلال رمضان: لنحدد مسبقًا الأعمال الصالحة التي سنحرص عليها، من صلاة وقيام وذكر وصدقة، فالموسم قصير، وينبغي أن نحسن استغلاله.
4. استحضار قصر مدة الشهر: رمضان يمر سريعًا، فليكن لنا فيه نصيب وافر من الطاعات، حتى لا نندم بعد رحيله.
5. وضع برنامج يومي: ليكن لنا جدول يومي يشمل قراءة القرآن، وحضور الصلوات في المسجد، والقيام، والصدقة، والدعوة إلى الله، حتى لا يضيع الشهر بلا فائدة.
اللهم بلغنا رمضان، وأعنّا فيه على الصيام والقيام، واجعلنا من المقبولين فيه، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله، رمضان فرصة لا تعوض
إن إدراك شهر رمضان نعمة عظيمة ومنحة ربانية، فهو شهر تتضاعف فيه الحسنات، وتتنزل فيه الرحمات، وتُفتح فيه أبواب الجنة، وتُغلق فيه أبواب النار، ويُنادى فيه: “يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر”.
فيا من أكرمك الله ببلوغ رمضان، احمد الله على هذه النعمة، وسارع إلى اغتنامها، فإن الأيام تمضي سريعًا، وكم من أناس كانوا معنا في رمضان الماضي، واليوم هم تحت الثرى ينتظرون حسنة واحدة فلا يجدونها.
كيف تستثمر رمضان؟
لكي لا يكون رمضان مجرد أيام تمر، ثم نعود بعدها كما كنا، لا بد من التخطيط الجيد، وهنا بعض التوصيات العملية التي تساعد على استثماره كما ينبغي:
1. اجعل رمضان بداية جديدة
ابدأ رمضان بصفحة جديدة مع الله، واجتهد في تصفية قلبك من الذنوب والمعاصي، وتب إلى الله توبة نصوحًا، ففرصة التغيير الحقيقية تبدأ من الآن.
2. ضع أهدافًا واضحة
حدد لنفسك أهدافًا إيمانية وروحية لهذا الشهر، مثل ختم القرآن مرة أو أكثر، والمحافظة على قيام الليل، وكثرة الذكر والدعاء، وإصلاح القلب بالأعمال الصالحة.
3. لا تجعل رمضان موسمًا مؤقتًا للطاعة
كثيرون يجتهدون في العبادة خلال رمضان، ثم بعده يعودون إلى ما كانوا عليه، ولكن الفائز الحقيقي هو من يجعل رمضان نقطة تحول في حياته نحو الأفضل
4. أحسن استغلال الأوقات الفاضلة
اجعل وقت السَّحَر وقتًا للاستغفار والدعاء، فهو وقت تنزل الرحمات.
اغتنم أوقات النهار بالصيام والذكر وتلاوة القرآن.
لا تضيع لحظات الإفطار، فهي من أوقات استجابة الدعاء.
اجعل العشر الأواخر من رمضان موسمًا للاعتكاف والاجتهاد في الطاعة، فالمحروم من حُرِم ليلة القدر.
5. أكثر من الصدقة والإحسان
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان، فابذل من مالك في وجوه الخير، وتذكر أن الصدقة تقي من النار وتبارك في المال وتطهر النفس.

6. اجعل لسانك رطبًا بذكر الله
رمضان شهر الذكر والدعاء، فلا يكن لسانك غافلًا، بل أكثر من التهليل والتسبيح والاستغفار، وخصص لك وردًا يوميًا من الدعاء، خاصة في أوقات الإجابة.
7. حافظ على صلاتك في المسجد
اجعل رمضان فرصة للمواظبة على الصلوات في جماعة، واجتهد في صلاة التراويح والقيام، فهي من أعظم القربات في هذا الشهر الكريم.
8. احذر وسائل الترفيه المضيعة للوقت
ابتعد عن البرامج والمسلسلات التي تصرفك عن الطاعة، فكم من أناس يدخل عليهم رمضان ويخرج دون أن يستفيدوا منه، لأنهم انشغلوا باللهو عن العبادة
أخي المسلم، هل أدركت قيمة رمضان؟
إن أعمارنا قصيرة، ولكن الله أعطانا مواسم مضاعفة الأجر، فرمضان فرصة ثمينة، وأيامه معدودة، فمن وفقه الله لاستغلاله، فقد ربح، ومن ضيّعه فقد خسر خسرانًا مبينًا.
قال الحسن البصري رحمه الله: “إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته”.
فلنحاسب أنفسنا اليوم قبل أن نُحاسب غدًا، ولنعدّ العدة لاستقبال رمضان بقلوب مخلصة، ونفوس تواقة للطاعة، وعزائم لا تلين حتى نخرج منه وقد غُفرت ذنوبنا واعتقت رقابنا من النار.
اللهم بلغنا رمضان، وأعنا فيه على الصيام والقيام، واجعلنا من الفائزين المقبولين، اللهم اعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا من النار، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.