الصيام في رمضان يوقظ الشعور بمعاناة الفقراء
يقظة الشعور بمعاناة الفقراء
قال بديع الزمان النورسي:
إن من بين الحِكم العميقة للصوم والتي ترتبط بالحياة الاجتماعية للإنسان، أن الله سبحانه وتعالى قد جعل الناس متفاوتين في مستويات معيشتهم، وبذلك يدعو الأغنياء إلى مد يد العون لإخوانهم الفقراء. غير أن الأغنياء، في العادة، لا يستطيعون الإحساس الحقيقي بمعاناة الفقراء، ولا يمكنهم أن يدركوا تمامًا مشقة الجوع وألمه إلا من خلال تجربة الصيام نفسها.
فلولا الصوم، لما أدرك كثير من الأغنياء الذين ينغمسون في ملذات الحياة مدى قسوة الجوع، ولا استشعروا معاناة المحتاجين وحاجتهم الماسة إلى الرحمة والعطف. وهكذا، تصبح الشفقة على الآخرين – وهي غريزة مغروسة في طبيعة الإنسان – من العوامل التي تدفع إلى شكر النعم بصدق، إذ يجد كل فرد، مهما كان وضعه، من هو أشد منه احتياجًا، مما يجعله مسؤولًا عن الإحسان إليه.
فلو لم يكن الإنسان مضطرًا إلى تذوق مرارة الجوع بنفسه، لما كان دافع الإحسان إلى الآخرين حاضرًا بقوة، ولما تحقق مبدأ التعاون الإنساني القائم على الرحمة والمواساة. وحتى إن قدَّم مساعدة، فقد لا تكون على الوجه الأكمل، لأنه لم يعش تلك المعاناة بنفسه ليشعر بها شعورًا حقيقيًا.
وهكذا، فإن الصوم لا يقتصر على كونه عبادة روحية تهذب النفس وتزكيها، بل هو أيضًا مدرسة عملية تُربي الإنسان على الشعور بآلام غيره، وتغرس فيه قيم التضامن والتكافل الاجتماعي. فعندما يجوع الغني ويشعر بمرارة الحرمان، يدرك حينها مدى حاجة الفقير إلى لقمة العيش، فيلين قلبه، ويزداد إحساسه بالمسؤولية تجاه مجتمعه، مما يدفعه إلى مد يد العون بسخاء وإحسان.
كما أن الصوم يحقق مبدأ المساواة بين البشر، حيث يخضع الجميع – أغنياء وفقراء – لنفس التجربة، فيشعر الجميع بحقيقة الضعف البشري والحاجة إلى الله، ويزداد وعيهم بقيمة النعم التي أنعم الله بها عليهم. وهذا الشعور العميق يولد في القلوب تواضعًا وشكرًا، ويقوّي روابط الأخوة بين أفراد المجتمع، مما يسهم في نشر الرحمة والتعاون بين الناس.
وعليه، فإن الصوم ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو وسيلة إلهية لتربية النفس، وتهذيب الأخلاق، وتقوية أواصر المحبة والتراحم بين الناس، مما يجعل المجتمع أكثر تماسكًا ورحمة، وأقرب إلى تحقيق مقاصد العدل والتكافل التي جاءت بها الرسالات السماوية.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الصوم يُعَلِّم الإنسان الانضباط وضبط النفس، حيث يعتاد على التحكم في شهواته ورغباته، مما ينعكس إيجابًا على سلوكه وأخلاقه. فحين يعتاد المرء على الصبر في الامتناع عن المباحات خلال نهار الصيام، يصبح أكثر قدرة على مقاومة النزوات وضبط انفعالاته، مما يسهم في تهذيب شخصيته وتعزيز قوته الداخلية.
كما أن الصوم يُذكِّر الإنسان بضعفه وافتقاره إلى الله، فهو بحاجة إلى الطعام والشراب ليستمر في الحياة، وحين يحرم نفسه منهما طواعية، يدرك أن القوة الحقيقية ليست في امتلاك الثروة أو الجاه، وإنما في التواضع والخضوع للخالق. وهذا الإحساس يعزز في القلب التقوى والخشوع، فيزداد المؤمن قربًا من ربه، ويصبح أكثر وعيًا بحقيقة وجوده في هذه الحياة.
ولا يقتصر أثر الصوم على الفرد وحده، بل يمتد إلى المجتمع بأسره، حيث يسهم في نشر روح التآلف والتعاطف بين أفراده. فحين يشعر الغني بجوع الفقير، تنشأ بينهما رابطة إنسانية قوية قوامها الرحمة والمودة، مما يؤدي إلى بناء مجتمع أكثر تلاحمًا وتعاونًا. وهكذا، يصبح الصيام وسيلة فعالة لتحقيق العدل الاجتماعي، حيث يوقظ في القلوب الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين، ويدفع الناس إلى التكافل وتقديم العون للمحتاجين.
ومن هذا المنطلق، يتجلى الصوم كعبادة شاملة تجمع بين الروح والجسد، بين الفرد والمجتمع، وبين الدنيا والآخرة، فهو ليس مجرد امتناع عن الطعام، بل تجربة إنسانية عظيمة تُزكي النفس، وتُطهر القلب، وتغرس في الإنسان أسمى القيم والمبادئ التي تجعله عنصرًا فاعلًا في مجتمعه، ساعيًا إلى الخير، ناشرًا للرحمة، ومحققًا لمقاصد العدل والتضامن التي جاءت بها الأديان السماوية.

الصيام كمنهج حياة وأثره في بناء الحضارات
لا يقتصر تأثير الصيام على الأفراد والمجتمعات فحسب، بل يمتد ليشمل الأمم والحضارات، حيث كان الصيام عبر التاريخ وسيلة لتعزيز القيم الأخلاقية والروحانية التي أسهمت في نهضة الشعوب وازدهارها. فالمجتمعات التي يتحلى أفرادها بالانضباط والصبر والتكافل تكون أكثر قدرة على تحقيق التقدم والازدهار.
ويعد الصيام تدريبًا عمليًا على قوة الإرادة وضبط النفس، مما ينعكس على سلوك الأفراد في حياتهم اليومية، فيجعلهم أكثر التزامًا وانضباطًا في أعمالهم، وأكثر إنتاجية وإبداعًا. فالتاريخ يشهد أن كثيرًا من الإنجازات العظيمة تمت في أوقات الصيام، حيث يمنح الإنسان صفاءً ذهنيًا وقدرة على التركيز، ما يساعده في اتخاذ القرارات الصائبة والسعي نحو التطوير والابتكار.
كما أن الصيام يعزز مفهوم العدل الاجتماعي، حيث يشعر الغني بحاجة الفقير، فيدفعه ذلك إلى العطاء والمساهمة في تحسين أوضاع المحتاجين، مما يؤدي إلى تماسك المجتمعات وتقليل الفجوات الطبقية. فالدول التي تعتمد على قيم التكافل والتراحم تنعم باستقرار اجتماعي أكبر، مما ينعكس إيجابًا على اقتصادها ونموها الحضاري.
الصيام كوسيلة لتحقيق السلام الداخلي والعالمي
إن الصيام لا يعزز فقط السلام الداخلي للفرد، بل يسهم أيضًا في تحقيق السلام العالمي، من خلال نشر قيم التسامح والتعايش بين الشعوب. فعندما يدرك الإنسان ضعف بنيته وحاجته إلى الخالق، يصبح أكثر تواضعًا وأقل أنانية، مما يحدّ من النزاعات والخلافات، ويعزز روح الاحترام المتبادل بين الناس.
وقد أكدت الأديان السماوية والفلسفات الإنسانية أهمية الامتناع عن الشهوات لفترة معينة كوسيلة للسمو الروحي والتقرب من القيم العليا. فالصيام ليس خاصًا بدين معين، بل هو ممارسة عالمية توجد في مختلف الثقافات والحضارات، مما يعكس أهميته في تهذيب النفس وتقويم السلوك.
خاتمة
إن الصيام تجربة روحية وإنسانية متكاملة، تمتد آثارها لتشمل الفرد والمجتمع والأمة بأسرها. فهو ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو مدرسة تربوية وأخلاقية تعلّم الإنسان قيم الصبر والانضباط والتكافل. كما أنه يسهم في تعزيز السلام الداخلي والخارجي، ويجعل المجتمعات أكثر وعيًا بمسؤولياتها تجاه الفقراء والمحتاجين.
ومن هذا المنطلق، يمكننا القول إن الصيام ليس عبادة موسمية، بل هو أسلوب حياة يجب أن ينعكس على سلوك الإنسان طوال العام، ليكون أكثر رحمة وعدلًا وإحسانًا، ساعيًا لتحقيق الخير لنفسه ولمجتمعه وللعالم أجمع.