رمضان مدرسة تهذيب الشهوات

رمضان في ظل توترات سياسية متصاعدة

توترات سياسية 

يحل علينا شهر رمضان هذا العام وسط أجواء مشحونة بالتوترات السياسية التي تعصف بمنطقتنا العربية، فتثقل القلوب وتشغل العقول، مما يلقي بظلاله على روحانية هذا الشهر المبارك. لا شك أن صفاء النفس وراحة البال يساهمان في تعميق الخشوع واستحضار التضرع، وهو جوهر العبادة وغايتها، لكن الواقع المؤلم الذي تمر به أمتنا يجعل من الصعب على كل مؤمن صادق تجاهل هذه المعاناة.

من المؤسف أن نشاهد نشرات الأخبار اليومية فنرى عالماً يسوده الاستقرار إلى حد كبير، بينما منطقتنا تغرق في دوامة من الدماء المراقة، والأرواح البريئة التي تُزهق، والصراعات السياسية التي لا تهدأ، وسط دعوات للإقصاء والإبادة. يزداد الأمر سوءًا مع التضليل الإعلامي، والفتاوى التي تُستخدم لتحقيق مآرب سياسية، حتى بات من الصعب التمييز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر.

لمجرد خلافات سياسية، نجد بعض الشخصيات الدينية تبرر القتل وإقصاء المعارضين، مما يفتح الباب أمام انتهاك الأعراض وسجن الأبرياء في ظروف غير إنسانية، فضلاً عن تكميم الأفواه بإغلاق كل وسيلة إعلامية لا تسبح بحمد السلطات.

في سوريا، تُلقى البراميل المتفجرة وتُستخدم الأسلحة الكيميائية التي لم تُوجَّه يوماً إلى أعداء الأمة، بينما في غزة، يُحاصر الفلسطينيون منذ سنوات في ظل صمت دولي وعربي. أما العراق، فتعصف به النزاعات الطائفية، وفي مصر، أُسقطت الديمقراطية لمجرد أن نتائجها لم ترُق للبعض. وعلى الرغم من المعاناة، تحاول دول مثل ليبيا وتونس واليمن شق طريقها نحو الاستقرار بصعوبة بالغة.

ومما يبعث على الأسى، أن نسمع صحفياً عربياً يعلق على قصف غزة في هذا الشهر الفضيل قائلاً: “اللهم زد وبارك”، وآخر يصف جماعة الإخوان المسلمين بأنهم خوارج العصر، بينما يُصنَّف دعم المقاومة الفلسطينية جريمة تهدد الأمن القومي، بل حتى ملصق بسيط يحمل عبارة “هل صليت على النبي اليوم؟” أصبح مستفزاً للبعض!

ومن المفارقات العجيبة، أن تصدر وزارة الأوقاف المصرية قراراً بمنع الدعاء على الظالمين في صلاة التراويح، في وقت تُستخدم فيه الدراما الرمضانية كوسيلة لتمرير مشاهد العري والمجون تحت شعار “المسلسلات الرمضانية”، وكأنها جزء من روح الشهر الكريم.

بل إن جراح الأمة في سوريا، ومصر، والعراق، وغزة، أصبحت موضع جدل حتى بين بعض النخب المثقفة، وكأنهم لم يسمعوا حديث النبي ﷺ: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً” [متفق عليه]. لقد نسي هؤلاء أن رمضان يُوحِّد المسلمين في مختلف بقاع الأرض، حيث يشعر الغني بجوع الفقير، ويسارع أهل الخير إلى مساعدة المحتاجين، كما أن الحج يُذكّر الجميع بوحدة الأمة تحت راية واحدة وشعار واحد: “لبيك اللهم لبيك”. فأين عقيدة الولاء والبراء التي تعد من أصول الإيمان؟ وقد قال ﷺ: “من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان” [رواه أبو داوود].

ما الذي أصاب أمتنا حتى وصلت إلى هذا الحال؟

أين عقلاؤها الذين يعيدون الناس إلى جادة الحق بالحكمة والموعظة الحسنة؟

وأين علماؤها الذين لا يخشون في الله لومة لائم؟

وأين رجالها الصادقون الذين قال الله فيهم: “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا” [الأحزاب: 23]؟

رمضان لم يتغير، لكن نحن من تغيرنا، ولن نجد لذة العبادة فيه حتى تستقيم نفوسنا. ومع ذلك، يبقى الأمل في رحمة الله، أن يرفع عنّا البلاء، ويفرج كربنا، ويغفر تقصيرنا، إنه سبحانه القادر على كل شيء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وإن كان الواقع مؤلمًا، فإن الأمل في الله لا ينقطع، فالليل مهما طال لا بد أن يعقبه فجر، والظلم مهما اشتد لا بد أن يزول، {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}. فلا ينبغي أن نقف عند حدود الألم، بل يجب أن نجعل من هذا الشهر محطةً لمراجعة الذات، نعيد فيها ترتيب أولوياتنا، ونجدد فيها العهد مع الله، ونصلح ما أفسدته الأيام في نفوسنا.

إن رمضان ليس مجرد صيام عن الطعام والشراب، بل هو مدرسة إيمانية تعلّمنا الصبر، وتقوي فينا روح العزيمة، وتوقظ معاني الأخوة والتراحم بين المسلمين. هو فرصة عظيمة لنعود إلى الله بقلوب خاشعة، ونستلهم من سير السلف الصالح معاني الجهاد الحقيقي، الذي يبدأ بإصلاح النفس، والتمسك بالحق، والصمود أمام الباطل.

علينا أن نستغل هذا الشهر في التقرب إلى الله بالدعاء الصادق، بأن يرفع عن أمتنا ما حل بها، وأن يعيد لها عزتها ووحدتها. لا نكتفي بالحزن على أحوال الأمة، بل نترجم مشاعرنا إلى أفعال: بدعم المظلوم، ونصرة الحق، والإحسان إلى الفقراء، وتعزيز وعي الأمة لتكون أكثر إدراكًا لما يُحاك ضدها.

فالمستقبل تصنعه إرادة الشعوب، وحين يوقن كل فرد أن له دورًا في نهضة أمته، فإن التغيير يصبح ممكنًا. وما أجمل أن يبدأ هذا التغيير من رمضان، حيث تصفو النفوس، وتخشع القلوب، وتُشحذ الهمم، فيكون الشهر نقطة تحول حقيقية، لا مجرد أيام تمضي في العبادات الشكلية دون أثر في الواقع.

رمضان في ظل توترات سياسية متصاعدة
رمضان في ظل توترات سياسية متصاعدة

فيا أمة الإسلام، عودي إلى أصالتك، وتشبثي بعقيدتك، وانهضي من سباتك، فما زال في الأمة خير كثير، وما زال وعد الله بالنصر قائماً لمن يستحقه، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}.

نسأل الله أن يبلغنا رمضان، وأن يجعل لنا فيه نصيبًا من رحمته ومغفرته وعتقه من النار، وأن يُعيد للأمة مجدها ووحدتها، ويرفع عنها البلاء، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

مزيد من الخواطر الرمضانية