رمضان التائبين

المقاصد الشرعية للصيام: نحو صيام يحقق مراد الله

المقاصد الشرعية للصيام 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “خاصة الفقه في الدين معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها”.

إن عبادة الصيام في الإسلام تتجاوز الامتناع عن الطعام والشراب، فهي مدرسة متكاملة ترفع الإنسان في مختلف الجوانب الروحية، العقلية، الصحية، والاجتماعية. وقد جعل الإسلام لهذه العبادة مكانة عظيمة، حيث إنها أحد أركان الإسلام الأساسية، كما ورد في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان” (رواه البخاري ومسلم).

وقد وعد الله ورسوله الصائمين بأجور عظيمة، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه” (رواه البخاري ومسلم)، وأيضًا: “من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه”. كما أن شهر رمضان يتميز بليلة القدر المباركة التي هي خير من ألف شهر، إضافة إلى العشر الأواخر التي تُعدّ من أعظم ليالي العام.

إن هذه الخصائص جميعها تؤكد المكانة السامية للصيام في الشريعة الإسلامية، وتجعل من الضروري لكل مسلم إدراك مقاصد هذه العبادة العظيمة، بحيث لا يكون أداؤها مجرد عادة بل عبادة واعية تحقق ثمارها المرجوة في حياة الإنسان. فالفقه في مقاصد العبادات يُمكّن المسلم من استشعار أثرها العميق، مما يعزز إخلاصه وطمأنينته في أدائها.

المقاصد الشرعية للصيام

أولًا: تحقيق التقوى

أبرز مقاصد الصيام التي نص عليها القرآن الكريم هي تحقيق التقوى، حيث يقول الله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

فالصيام عبادة تُهذّب النفس، وتُدرب الإنسان على الابتعاد عن المحرمات، إذ يمتنع الصائم عن المفطرات، كما يُلزم نفسه بالكف عن المعاصي، فيتحقق بذلك تهذيب للنفس وارتقاء بدرجة التقوى. وقد أشار الإمام الشوكاني إلى أن التقوى المقصودة هنا تتجلى في المحافظة على العبادة والابتعاد عن المعاصي، حيث إن الصيام يكبح الشهوات ويحد من دوافع الإنسان إلى المحرمات.

ثانيًا: تعميق الإخلاص والاستسلام لله

الصيام هو من العبادات التي تعزز في الإنسان الشعور بالخضوع المطلق لله تعالى، حيث يمتنع الصائم عن الطعام والشراب والشهوات، لا لرقابة الناس، بل استجابةً لأمر الله وحده. يقول ابن القيم رحمه الله: “فإن الصائم لا يفعل شيئًا، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثارًا لمحبة الله ومرضاته، وهو سرٌّ بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه”.

وهذا المعنى العميق يعزز من استسلام العبد لأوامر الله، ويقوي لديه الوازع الداخلي للالتزام بشرع الله في السر والعلن.

ثالثًا: تزكية النفس وتهذيبها

الصيام وسيلة فعالة لتنقية النفس من أدران الشهوات والذنوب، فهو يدرب الإنسان على ضبط رغباته والتحكم في غرائزه، مما يساعده على تحقيق نقاء القلب والصفاء الروحي. كما أنه يعزز الإخلاص، إذ إن الصوم عبادة لا يراها الناس، وإنما تكون بين العبد وربه، كما جاء في الحديث القدسي: “إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به” (رواه البخاري ومسلم).

يقول الإمام ابن رجب رحمه الله: “أهون الصيام ترك الشراب والطعام، ولكن الصوم الحقيقي هو صيام الجوارح عن المحرمات، وصيام القلب عن الآثام”. فالصوم ليس مجرد امتناع عن الطعام، بل هو تهذيب للنفس، وضبط للانفعالات، وتدريب على الترفع عن كل ما يغضب الله.

رابعًا: تدريب النفس على الصبر

الصوم يُعلِّم الإنسان الصبر في جميع أنواعه:

الصبر على الطاعة: حيث يصبر الصائم على الجوع والعطش والتعب امتثالًا لأمر الله.

الصبر عن المعصية: إذ يمتنع عن كل ما يُفسد صومه، من قول أو فعل محرم.

الصبر على البلاء: حيث يتحمل المشقة طلبًا للأجر والثواب.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الصيام جُنَّة” أي وقاية، فهو يحمي الإنسان من الوقوع في المعاصي ويقوي إرادته في مواجهة التحديات.

إن فهم مقاصد العبادات يساعد على تعميق أثرها في حياة المسلم، فالله سبحانه وتعالى لم يشرّع العبادات إلا لتحقيق مصالح عظيمة لعباده في دينهم ودنياهم.

وكما قال ابن القيم رحمه الله:

“المقصود من الصيام هو حبس النفس عن الشهوات، وتعديل قوتها الشهوانية، ليكون العبد أكثر استعدادًا لطلب ما فيه سعادته الحقيقية، وقبول ما يزكو به من الأعمال، فالصوم رياضة للأبرار، وجُنّة للمحاربين، وسرٌّ بين العبد وربه لا يطلع عليه أحد سواه”.

فلنحرص جميعًا على أن يكون صيامنا أداةً لترسيخ معاني الإيمان والتقوى، وأن يكون نقطة انطلاق نحو العبودية الحقة لله في جميع أيام السنة، لا في رمضان فقط.

دعوة لتفعيل فقه المقاصد في العبادات

إن فهم مقاصد العبادات لا يقتصر على الجانب الفقهي النظري، بل يمتد ليصبح منهجًا عمليًا في حياة المسلم، إذ أن استيعاب الحكمة من العبادات يعزز من الوعي الديني، ويحول الممارسات التعبدية من كونها عادات متكررة إلى عبادات مؤثرة تحقق أثرها المنشود.

فإذا أدرك المسلم أن الصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو وسيلة لتحقيق التقوى، وتهذيب النفس، وتزكيتها، والصبر في سبيل الله، فإنه سيحرص على تحقيق هذه الغايات من خلال عبادته. وسيجتهد في صيامه ليكون صيامًا حقيقيًا، لا يقتصر على ترك المفطرات، بل يمتد ليشمل ضبط الجوارح، والالتزام بالأخلاق الفاضلة، والإكثار من الطاعات، والابتعاد عن كل ما يخدش روحانية هذه العبادة.

الصيام محطة انطلاق لا محطة توقف

ينبغي على المسلم أن ينظر إلى شهر رمضان على أنه محطة انطلاق نحو الاستقامة، وليس مجرد فترة مؤقتة للعبادة يعود بعدها إلى ما كان عليه. فالتقوى التي يكتسبها العبد في رمضان يجب أن تكون زادًا له طوال العام، والصبر الذي يتدرب عليه خلال الصيام ينبغي أن يصبح جزءًا من شخصيته، والإخلاص الذي يتجلى في هذه العبادة يجب أن ينعكس في جميع أعماله.

إن الله سبحانه وتعالى جعل للإنسان مواسم للطاعة، ليجدد بها إيمانه، ويستعيد بها علاقته مع ربه، فرمضان فرصة عظيمة للتوبة، والتقرب من الله، وتعزيز الروح الإيمانية، فمن وُفق لصيامه كما أراد الله، فقد فاز بمغفرة عظيمة وعتق من النيران، فهل يعقل أن يفرط الإنسان في هذه الفرصة بمجرد انتهاء الشهر؟

لقد جاء الصيام في الإسلام ليكون مدرسة تربوية متكاملة، تزكي النفس، وتهذب الأخلاق، وتقوي الإيمان، وتعمق التقوى، وهو وسيلة لتحقيق العبودية الكاملة لله سبحانه وتعالى. فليس الصوم مجرد امتناع عن المفطرات، بل هو تربية للإنسان على مراقبة الله في السر والعلن، وإخلاص العمل له، والصبر على الطاعة، والابتعاد عن المعصية.

إن تفعيل فقه المقاصد في العبادات يسهم في بناء شخصية المسلم الواعي بدينه، المدرك لحكمة التشريع، الحريص على تحقيق الغايات العظمى من العبادات، فلا يكون أداؤه للعبادات مجرد أداء روتيني، بل عبادة قائمة على الفهم العميق، والمقصد السامي.

وكما قال الإمام ابن القيم رحمه الله:

“المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وتضييق مجاري الشيطان من العبد، وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها فيما يضرها، وهو لجام المتقين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو سرٌّ بين العبد وربه، لا يطلع عليه أحد سواه”.

نسأل الله أن يجعلنا من المقبولين في هذا الشهر الكريم، وأن يرزقنا الصيام والقيام على الوجه الذي يرضيه عنا، وأن يعيننا على الاستمرار في طاعته بعد رمضان، إنه سميع مجيب.

يبدو أن المقال قد اكتمل من حيث المضمون والترتيب، لكن إذا كنت ترغب في إضافة المزيد، فيمكننا تعزيز الفكرة الختامية ببعض التوصيات العملية أو الدعوات لتعميق أثر الصيام في حياة المسلم بعد رمضان.

ما بعد رمضان: الاستمرارية في الطاعة

إن رمضان ليس مجرد موسم عابر للطاعة، بل هو فرصة عظيمة لتجديد العهد مع الله والاستمرار في السير على طريق الاستقامة. ومن علامات قبول الطاعة أن يستمر العبد في الطاعة بعدها، فمن كان حريصًا على الصلاة في وقتها، وقراءة القرآن، والصدقة، وضبط لسانه، وغض بصره في رمضان، فليجعل ذلك منهجًا دائمًا في حياته، فرب رمضان هو رب الشهور كلها.

وقد قال بعض السلف: “كن ربانيًا، ولا تكن رمضانيًا”، أي لا يكن التزامك بالطاعة مقتصرًا على رمضان فقط، بل اجعل منه نقطة انطلاق نحو مزيد من التقرب إلى الله.

المقاصد الشرعية للصيام: نحو صيام يحقق مراد الله
المقاصد الشرعية للصيام: نحو صيام يحقق مراد الله
خطوات عملية للاستمرار بعد رمضان

1. المحافظة على الصلاة في وقتها: فهي صلة العبد بربه، وأعظم وسيلة لحفظ القلب.

2. الاستمرار في صيام النوافل: مثل صيام ستة أيام من شوال، والاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر

3. الاستمرار في قراءة القرآن: فكما كنت تتلوه في رمضان، اجعل لك وردًا يوميًا بعد رمضان.

4. الحرص على الأذكار والاستغفار: فذكر الله حياة للقلوب.

5. البعد عن المعاصي والمنكرات: وتذكر أن الصيام علمك ضبط النفس فحافظ عليها.

6. الحرص على الصدقة والإحسان: فالمجتمع بحاجة دائمة لأهل الخير.

7. مراجعة النفس بشكل مستمر: واسأل نفسك: هل أثر رمضان لا يزال موجودًا في حياتي؟

الدعاء بالقبول

وأخيرًا، من أعظم ما يحرص عليه المسلم بعد رمضان هو الدعاء بالقبول، فقد كان السلف الصالح يدعون الله ستة أشهر بعد رمضان أن يتقبل منهم صيامهم وقيامهم، لأن القبول هو الغاية العظمى، يقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].

نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يجعلنا من عباده الذين يستمرون في طاعته طوال العام، وأن يبلغنا رمضان القادم ونحن في أحسن حال.

مزيد من الخواطر الرمضانية