إن هذا الشهر قد حضركم

التجليات الإبداعية للأدب في رمضان

الصيام والتقوي

الحمد لله الذي منَّ على عباده بنعمة عظيمة، إذ حفظهم من وساوس الشيطان، ووقاهم كيده وخداعه، فجعل الصيام درعًا يحميهم وحصنًا يحصِّنهم، وفتح لهم به أبواب رحمته وجناته. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، الذي جاء بالهدى ودين الحق، وعلى آله وصحبه الكرام، الذين اهتدوا بنوره وساروا على هديه.

الصيام وسمو النفوس:

تميل النفوس الراقية بفطرتها إلى السعي نحو الكمال والارتقاء، وتبحث عن الفضائل في الأخلاق والأفعال، فلا ترضى بالدون ولا تقبل بما هو أقل من الأفضل، بل تسعى لتحقيق أسمى المراتب. ومن رحمة الله بعباده أنه منحهم عبادات ترفع من درجاتهم وتقربهم إليه، ومن أعظم هذه العبادات الصيام، الذي اختصّه الله بمزايا فريدة.

الصيام عبادة تهذب النفس وتطهر القلب، فيجد فيها الصائم لذة روحية، ويشعر بالقرب من الله، حيث تحرر النفس من أسر الشهوات وتزكية الروح، فيرتقي الإنسان بعمله وقلبه. وقد أقبل الصالحون على هذه العبادة، فوجدوا فيها صفاءً لأرواحهم، وسكينة لقلوبهم، وميدانًا للتنافس في الخير.

رمضان: موسم التجارة الرابحة:

إن بلوغ شهر رمضان نعمة عظيمة، وفرصة لا تقدر بثمن، فهو شهر تتضاعف فيه الحسنات، وتُفتح فيه أبواب الجنة، وتُغلق أبواب النار، كما أخبر بذلك النبي ﷺ. فهو موسم تجارة رابحة مع الله، ومن لم يغتنم هذا الشهر، فمتى سيفعل؟ ومن لم يقترب فيه من ربه، فكيف يرجو النجاة؟

كم من محروم لم يدرك رمضان، وكم من شخص ابتدأ صيامه ولكنه لم يتمّه، لذا من واجب العبد أن يدرك قيمة هذه النعمة، ويشكر الله عليها، ولا يكون شكره مجرد كلمات، بل بحسن الصيام، ومراعاة آدابه، والاجتهاد في الطاعة، والابتعاد عن المعاصي.

فضائل الصيام:

للصيام فضائل عظيمة، فقد قال النبي ﷺ: “الصيام جُنَّةٌ، وحصن حصين من النار”، وهو باب من أبواب الجنة يُدعى منه الصائمون، كما ورد في الحديث الصحيح. ولكن هذه الفضائل لا تتحقق إلا لمن التزم بآداب الصيام، فليس المقصود من الصيام مجرد الامتناع عن الطعام والشراب، بل هو مدرسة تربوية للنفس، ليصل العبد إلى التقوى، كما قال تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

مقاصد الصيام وآدابه:

بيّن الإمام الغزالي أن الغاية الحقيقية من الصيام هي تصفية القلب، وتحريره من الانشغال بغير الله، وكسر الشهوات التي تقود إلى الغفلة، وتقوية الإرادة لمواجهة النفس والهوى. لذلك، لا يكون الصيام مجرد ترك للطعام والشراب، بل يجب أن يكون صومًا عن كل ما يُبعد العبد عن ربه.

ومن آداب الصيام التي يجب مراعاتها:

1. ضبط الجوارح عن المعاصي: فيصون الصائم بصره عن النظر إلى ما لا يحل، ولسانه عن الغيبة والنميمة، وأذنه عن سماع الباطل. وقد قال جابر بن عبد الله: “إذا صُمتَ فليصُم سمعُك وبصرُك ولسانُك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقارٌ وسكينةٌ يوم صومك”

2. عدم الإكثار من الطعام عند الإفطار: فمن مقاصد الصيام تقليل الشهوة، وكسر سلطان الأكل على النفس، فمن غير اللائق أن يجوع الإنسان طوال اليوم، ثم يُسرف في الطعام عند الإفطار، فيُفقد الصيام أثره.

3. اغتنام رمضان في الطاعات: فهو فرصة لا تعوض، ومن العجيب أن يضيعها الإنسان في اللهو والغفلة، بينما هي أيام معدودات قد لا تتكرر.

درجات الصائمين:

ليس كل الصائمين في مرتبة واحدة، فمنهم من يكتفي بترك الطعام والشراب، ومنهم من يصون جوارحه عن الحرام، ومنهم من يسمو بروحه، فلا ينشغل إلا بالله، وهؤلاء هم الصفوة الذين جعلوا حياتهم كلها لله.

فأي مرتبة تريد أن تكون فيها؟ رمضان يقترب، فهل أعددت العدة له؟ وهل نويت أن تجعله مختلفًا عن سابقيه؟ تذكّر أن ما تزرعه في رمضان، هو ما ستحصده يوم القيامة.

الصيام والتقوى: الغاية العظمى

لقد أوضح الله سبحانه وتعالى الحكمة الكبرى من فرض الصيام في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فالصيام وسيلة لتحقيق التقوى، وهي الغاية العظمى التي يجب أن يسعى لها كل مؤمن.

والتقوى لا تتحقق بمجرد الامتناع عن الطعام والشراب، بل هي سلوك شامل يشمل طهارة القلب، وإخلاص النية، وحسن التعامل مع الآخرين، والبعد عن كل ما يغضب الله. فالصائم الحقيقي هو من يجعل صيامه مدرسةً تهذب أخلاقه وتزكي نفسه، فيزداد قربًا من الله، لا من يجعله مجرد عادة سنوية يؤديها بلا روح.

الصيام باب لمجاهدة النفس:

يعتبر الصيام من أعظم العبادات التي تعين العبد على مجاهدة نفسه، فحين يجوع الإنسان، وتضعف شهواته، يصبح قلبه أكثر استعدادًا للطاعة، وأكثر قابلية للتوبة والإنابة. وقد قال بعض السلف: “إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وصمت الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة”.

لهذا، كان الصالحون يحرصون على الاعتدال في الطعام، ويجعلون رمضان موسمًا للعبادة وليس للطعام والتسلية. كانوا يقللون من النوم، ويكثرون من الذكر والقيام، لأنهم علموا أن رمضان فرصة لا تعوض، وأنه قد يكون آخر رمضان لهم، فكانوا يعيشونه بروح مختلفة، وهمة عالية.

رمضان: تجارة رابحة مع الله

يقول النبي ﷺ: “مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ”. فهذا الشهر فرصة لتطهير النفس من الذنوب، وهو موسم مضاعفة الأجور، فأبواب الجنة مفتوحة، وأبواب النار مغلقة، والشياطين مصفدة، فلا عذر للعبد في التقصير.

التجليات الإبداعية للأدب في رمضان
التجليات الإبداعية للأدب في رمضان

كم من إنسان كان معنا في رمضان الماضي، وهو اليوم تحت التراب؟ كم من شخص كان يأمل أن يصوم هذا الشهر، ولكن لم يُكتب له ذلك؟ إن بلوغ رمضان بحد ذاته نعمة عظيمة، فمن بلغه فقد وهبه الله فرصة جديدة للتوبة والعمل الصالح.

فيا أيها المؤمن، لا تجعل رمضان يمر عليك كما مرت الأعوام السابقة! اجعل هذا الشهر نقطة تحول، بداية جديدة، موسمًا للارتقاء الروحي، فالله يمنحك فرصة، فهل ستغتنمها؟

الخاتمة: ماذا بعد رمضان؟

الصيام ليس مجرد عبادة تنتهي بانتهاء رمضان، بل هو منهج حياة، وهو تدريب للنفس على مجاهدة الهوى، وضبط الشهوات، والالتزام بالطاعة. فكما كنت تحافظ على صيامك خلال رمضان، احرص على أن تبقى قريبًا من الله بعد رمضان.

ومن علامات قبول الطاعة أن يداوم العبد على الطاعة بعدها، فلا تكن ممّن يعبدون الله في رمضان فقط، بل اجعل رمضان نقطة انطلاق، وواصل مسيرتك في الطاعة، وأدِّ الفرائض، وأكثر من النوافل، واحرص على الصيام بعد رمضان، فالنبي ﷺ كان يداوم على صيام ستة أيام من شوال، وصيام الاثنين والخميس، وصيام أيام البيض.

اللهم اجعلنا من المقبولين، وأعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واغفر لنا زلاتنا، وبلغنا رمضان أعوامًا عديدة في طاعتك ورضاك.

اللهم اجعلنا من المقبولين في هذا الشهر الفضيل، وارزقنا صيامًا خالصًا لك، واغفر لنا تقصيرنا، وأعنّا على طاعتك.

مزيد من الخواطر الرمضانية