هل صام في السنة التالية؟
أهمية العمر والعمل الصالح في رمضان
يُعد العمر نعمة عظيمة يمنحها الله لعباده، فهو فرصة لجمع الحسنات ونيل الأجر العظيم. وليس هناك سعادة تفوق سعادة المؤمن الذي كلما امتد به العمر، زادت أعماله الصالحة وتعاظم أجره عند ربه، فتصبح أيامه مليئة بالطاعات وأوقاته مكللة بالخير. وكما قيل: “خيركم من طال عمره وحسن عمله”، فطول العمر ليس الغاية، بل حسن استثماره في الطاعة هو الهدف الأسمى.
وفي المقابل، فإن الحسرة الكبرى تصيب من قصر عمره، وانشغل بالدنيا وأهمل العمل الصالح، فأضاع لحظاته الثمينة في الغفلة والمعاصي، حتى أدركه الموت وهو خالي الوفاض، بلا رصيد من الأعمال التي تشفع له عند لقاء ربه. وما أقسى أن يُفاجأ الإنسان بختام حياته، دون أن يكون قد أعدّ العدة ليوم الحساب!
ومن رحمة الله بعباده أنه جعل لهم مواسم للطاعة، يستطيعون فيها تعويض ما فاتهم، ومضاعفة حسناتهم، ومن أعظم هذه المواسم شهر رمضان المبارك. إنه شهر الرحمة والمغفرة، الذي تُفتح فيه أبواب الجنة وتُغلق أبواب النار، وتتنزل فيه البركات. فيه تُرفع الدرجات، وتُجاب الدعوات، وتُمحى الذنوب، ويُقال للطائع: أقبل، وللغافل: كفاك تفريطًا. فكم من أناس حُرموا من بركات هذا الشهر، فكانت خسارتهم عظيمة وحسرتهم لا توصف!
يقول النبي ﷺ: “إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرمها فقد حُرم الخير كله، ولا يُحرم خيرها إلا محروم” (رواه البيهقي). فمن لم يغتنم رمضان، فمتى سيتوب ويصلح حاله؟ وكيف يضيّع فرصة كهذه، وقد كُبّلت الشياطين وسُهلت أبواب الخير؟ أيعقل أن يُعرض عن الجنة وهي مفتوحة أمامه؟
رمضان ليس مجرد شهر للصيام، بل هو فرصة للتخفف من الذنوب، والإكثار من الحسنات، والعودة إلى الله بقلوب صادقة. وهو شفيعٌ لمن أحسن استغلاله، إذ يشهد للمؤمن يوم القيامة، كما قال النبي ﷺ: “الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني فيه. ويقول القرآن: رب، منعته النوم بالليل، فشفعني فيه. فيشفعان له” (رواه أحمد والطبراني والحاكم).
ولا يدرك قيمة رمضان إلا من فقده، فكم من أموات يتمنون لو عادوا ليشهدوا هذه الأيام المباركة، ولو للحظة واحدة، ليزدادوا فيها من الطاعات. وهذا ما أكده النبي ﷺ حينما روى قصة رجلين أحدهما استشهد في سبيل الله، بينما الآخر عاش عامًا بعده، فكان الأخير أسبق إلى الجنة بسبب إدراكه رمضان وصيامه وقيامه. فقال النبي ﷺ: “أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ وأدرك رمضان فصامه، وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟ فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض” (صحيح سنن ابن ماجه).
استثمار رمضان في الطاعات
رمضان فرصة ثمينة لا تتكرر إلا مرة في العام، فمن أدركه ولم يغتنمه فقد أضاع على نفسه خيرًا كثيرًا. فهو موسم تتضاعف فيه الحسنات، وتتنزل فيه الرحمات، ويعتق الله فيه رقاب عباده من النار كل ليلة. فأي فرصة أعظم من هذه لمن أراد النجاة والفوز برضا الله؟
إن من أعظم ما يفعله المسلم في هذا الشهر المبارك هو الإكثار من العبادات، من صيام وقيام وذكر وقراءة للقرآن. فرمضان شهر القرآن، وقد كان السلف الصالح يتركون كل شيء في هذا الشهر ليتفرغوا لتلاوة كلام الله، لأنهم يدركون أن القرآن هو النور الذي يضيء القلوب، وهو الشفيع يوم القيامة.
كذلك، فإن الصدقة في رمضان لها فضل عظيم، فقد كان النبي ﷺ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حتى وُصف بأنه “أجود بالخير من الريح المرسلة”. فالإنفاق على الفقراء والمحتاجين، وإطعام الصائمين، وإدخال السرور على قلوب الناس من أعظم القربات التي تقرّب العبد إلى ربه.
ولا ينبغي أن يقتصر اجتهاد المسلم في رمضان على الأعمال الفردية فقط، بل عليه أن يكون داعيًا للخير، معينًا لمن حوله على الطاعة، فيشجع أهله وأصدقاءه على استثمار رمضان بأفضل طريقة. فكما أن المعصية مُعدية، فإن الطاعة أيضًا تنتشر بين الناس، ومن دعا إلى خير فله مثل أجر فاعله.
تحقيق التقوى من خلال الصيام:
الصيام في حقيقته ليس مجرد الامتناع عن الطعام والشراب، بل هو مدرسة تهذب النفوس، وتعلّم الإنسان الصبر، والإخلاص، ومجاهدة النفس. فمن لم يتحكم في شهواته وأخلاقه في رمضان، فليس صيامه إلا جوعًا وعطشًا، كما قال النبي ﷺ: “رُبّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع، ورُبّ قائمٍ ليس له من قيامه إلا السهر” (رواه ابن ماجه).
لذلك، فالصيام ليس فقط عن الطعام، بل عن كل ما يغضب الله: عن الغيبة، والكذب، والنظر الحرام، والكلام الفاحش. فالمؤمن الصادق يجتهد في أن يكون صيامه سببًا في إصلاح قلبه وسلوكه، حتى يخرج من رمضان وقد صار أقرب إلى الله، وأبعد عن الذنوب.
اغتنام العشر الأواخر وليلة القدر:
إذا كان رمضان كله فرصة عظيمة، فإن العشر الأواخر منه هي تاج هذا الشهر، وفيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. فهي ليلة تُكتب فيها مقادير العباد، وتتنزل فيها الملائكة بالخير والبركات، ومن وُفق للقيام فيها فقد نال خيرًا لا يُوصف.
وقد كان النبي ﷺ إذا دخلت العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله، وذلك لاجتهاده في طلب ليلة القدر. فالمؤمن العاقل يجعل هذه الأيام الأخيرة ذروة اجتهاده، فيكثر فيها من الدعاء والاستغفار والقيام، ويسأل الله العفو والمغفرة، كما علّم النبي ﷺ عائشة -رضي الله عنها- أن تقول: “اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عني”.

ختام رمضان والفوز بالقبول
مع اقتراب رمضان من نهايته، يحرص العاقل على أن يختتمه بأفضل الأعمال، فلا يضعف اجتهاده في آخره، بل يزيد في الطاعة، ويودّع الشهر بالدعاء والابتهال أن يكون من المقبولين.
ومن علامات القبول أن يجد العبد في قلبه تحولًا نحو الخير، ورغبة في الاستمرار في الطاعة بعد رمضان، فالمقبولون هم الذين يواصلون السير إلى الله، ولا يعودون إلى الغفلة بعد انقضاء الشهر.
فلنجعل رمضان بداية جديدة، وصفحة بيضاء في علاقتنا مع الله، ولنستغل ما تبقى منه بجد واجتهاد، عسى أن نكون من الفائزين برضا الله وكرمه، ومن العتقاء من النار، فذلك هو الفوز العظيم!
فيا من أكرمك الله ببلوغ رمضان، لا تضيع هذه الفرصة الثمينة، بل اجتهد في العبادة، وأحسن استثمار وقتك، ونافس في الخير، فإن تجار الدنيا يبذلون جهدهم لأجل مكاسب فانية، وأنت تاجر الآخرة، فلا ترضَ بأقل من أعظم الأرباح!