إذا أدركت رمضان، فليشهد الله على ما سأقدّم من عمل!
فليشهد الله علي ما أقدم
جلس صاحبي في مصلى العيد، يتأمل الأيام التي مرت كلمح البصر، ويسترجع ذكريات شهر رمضان الذي انقضى سريعًا، وكأنه لم يكن سوى يوم واحد. شعر بالحسرة على الليالي التي رحلت دون أن يستثمرها كما ينبغي، والأيام التي انقضت دون أن يحقق فيها ما كان يطمح إليه.
بينما كان غارقًا في أفكاره، بدأ يقارن نفسه بأقرانه الذين سبقوه في الطاعات، وشعر أن الفارق بينه وبينهم كبير. لقد انطلقوا معه في بداية الشهر، لكنه تهاون وأجَّل، بل وأفرط في الراحة، حتى وجد نفسه متأخرًا عن الركب، بينما حصد غيره الجوائز العظيمة. حاول أن يسترجع أعماله خلال الشهر، ففتح صفحة تلاوة القرآن، ليجد نفسه بالكاد أنهى ختمة واحدة بصعوبة، في حين أن غيره من الشباب أتموا خمسًا، بل وبعضهم بلغ العشر!
بحث عن عزاء لنفسه في مجال الصدقة والبذل، خاصة أنه ممن أنعم الله عليهم بالمال، لكنه أدرك أن عطاءه لم يكن على قدر ما أنعم الله به عليه. نظر حوله، فوجد من هم أقل منه مالًا، لكنهم أكثر سخاءً وعطاءً، فشعر بالخجل من تقصيره.
حاول أن يبتعد عن مشاعر الندم هذه، فانتقل إلى صفحة أخرى: صوم الجوارح، لكنه أدرك أن جوارحه لم تكن في انضباط الصائمين، فقد أطلق بصره وسمعه ولسانه فيما لا ينفع، بل ربما فيما يضر. تذكر الليالي التي قضاها أمام البرامج والمسلسلات، التي لم يكن ليشاهدها في غير رمضان، فكيف به يشاهدها في شهر الرحمة والمغفرة؟! استعاد لحظات انشغاله بالمسابقات الدنيوية التي أخذت من وقته وجهده الكثير، في حين أن فرص الفوز فيها ضئيلة، بينما غفل عن المسابقات الأخروية، حيث الجائزة عظيمة، والفرص مضمونة لمن أخلص العمل.
نظر من حوله في مصلى العيد، فرأى أصدقاءه يضحكون، وكأنهم يحتفلون بالخروج من رمضان، بينما على الجانب الآخر، رأى عبادًا وصالحين بوجوه يملؤها النور والسرور، فقد استشعروا لذة الطاعة، وفرحة القبول. عندها تذكر ما سمعه ذات يوم: “ليس العيد لمن لبس الجديد، ولكن لمن رضي عنه رب العبيد وأعتقه من العذاب الشديد.”
خرج من المصلى وقلبه يغمره العزم، قرر أن يكون رمضان القادم مختلفًا، أن يكون فيه من السابقين، وأن يعيش الفرحة الحقيقية التي يعيشها الصالحون في يوم العيد.
واليوم، إذ يدنو شهر رمضان من جديد، يجد نفسه أكثر تصميمًا على اغتنام أيامه ولياليه، خاصة بعدما رأى الموت يخطف قريبًا له، وصديقًا من حيه، وزميلًا في عمله. عندها حمد الله أن أمهله ليشهد رمضان مرة أخرى، راجيًا أن يكون هذا العام بداية جديدة له.
وكيف لا يشتاق إلى رمضان، وهو شهر الرحمة والغفران، شهر القرآن والدعاء؟! كيف لا يتلهف له، وهو يسمع قول النبي ﷺ: “من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه.”؟ وكيف لا يفرح وهو يعلم أن أبواب الجنة تُفتح، وأبواب النار تُغلق، والشياطين تُصفد من أجله ومن أجل إخوانه المؤمنين؟
ومع اقتراب شهر رمضان، أخذ صاحبي يجهز نفسه لاستقباله استقبالًا مختلفًا هذه المرة. قرر أن لا يكون رمضان هذا العام كسابقيه، بل عزم على أن يكون من الفائزين فيه حقًا، لا بالاحتفالات والمظاهر، بل بالعمل الصادق، والطاعات الخالصة، والقرب من الله بكل جوارحه.
بدأ يضع خطة محكمة، فحدد أوقاتًا لتلاوة القرآن، وجعل هدفه أن يختمه أكثر من مرة، لا مجرد قراءة متسرعة، بل تدبرًا وتأملًا. قرر أن يكون للصدقة نصيب وافر من ماله، فها هو يخصص جزءًا من دخله لمساعدة الفقراء والمحتاجين، إدراكًا منه أن الإنفاق في رمضان تجارة رابحة لا تبور.
لم يغفل عن صوم الجوارح أيضًا، فقد أدرك أن الصوم ليس فقط عن الطعام والشراب، بل عن كل ما يغضب الله، فقرر أن يضبط لسانه عن اللغو، وعينه عن الحرام، وأذنه عن كل ما يبعده عن الله. اختار أن يجعل وقته عامرًا بالذكر، وصحبه ممن يعينونه على الخير، وأن يبتعد عن المجالس التي تضيع الأوقات فيما لا فائدة منه.
كان قلبه يمتلئ شوقًا كلما تذكر حديث النبي ﷺ: “من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه.” فقرر أن يجعل التراويح والقيام عادةً ثابتة، لا يتهاون فيها مهما كانت الظروف، بل يستمتع بلذة الوقوف بين يدي الله في جوف الليل، حيث تتنزل الرحمات، وتُرفع الدعوات، وتُكتب الأجور العظيمة.
ومع دخول أول ليلة من رمضان، وقف بين يدي الله، ورفع يديه بالدعاء: “اللهم سلمني لرمضان، وسلّم لي رمضان، وتسلّمه مني متقبلًا.” شعر بسكينة غامرة، وكأن الله قد أذن له بفرصة جديدة ليصلح ما فات، فازداد يقينًا أن هذا الشهر هو هبة عظيمة لمن أراد الفوز بالجنة.
وفي كل يوم يمر من رمضان، كان يجدد العهد مع نفسه، ويوجه بوصلة قلبه نحو الطاعات، حتى يشعر بلذة العيد الحقيقية، لا بلبس الجديد فقط، بل بالشعور أن الله قد رضي عنه، وقَبِل عمله، وكتب له العتق من النار.

وهكذا مضت أيام رمضان، ومع اقتراب نهايته، لم يشعر صاحبي بالحزن كما في الأعوام الماضية، بل شعر بالرضا، لأنه هذه المرة لم يكن مجرد شاهد على رمضان، بل كان عاملًا فيه، مجتهدًا، عابدًا، سائلًا الله أن يكون من المقبولين.
فيا من بلغك الله رمضان هذا العام، اجعلها نقطة تحول، فكم من أحبابنا تمنوا أن يكونوا معنا اليوم ولكنهم تحت التراب. اغتنم هذه الفرصة، فربما لا تتكرر، وأرِ الله من نفسك خيرًا، فلعلك تكون من الفائزين بجنة عرضها السماوات والأرض.
اللهم اجعلنا من الذين يستغلون هذا الشهر الكريم في طاعتك، وأعنَّا على اغتنامه فيما يرضيك، ولا تحرمنا فضلك بذنوبنا، فإنك واسع الفضل والجود، وأنت أكرم الأكرمين.