لحظات القرب

لحظات القرب

نفحات رمضان وأوقات القرب من الله

يحمل إلينا رمضان بنسائمه العطرة أجواءً من الطمأنينة والسكينة، فتغمر القلوب فرحة وسعادة لا تضاهيها فرحة. تتنزل رحماته فتطفئ لهيب الهموم، وتهدّئ من صخب الحياة، فيجد المؤمن في أيامه ولياليه ملاذًا ينقّيه من عناء الدنيا ومتاعبها.

الثلث الأخير لحظات إيمانية لا تُقدّر بثمن

مع اقتراب رمضان من نهايته، وخاصة في الثلث الأخير من لياليه، تخرج قوافل الإيمان، وتسري الأرواح نحو المساجد لتشهد لحظات هي من أنفس أوقات الدنيا، لحظات يرتقي فيها القلب إلى آفاقٍ من الخشوع، ويستظل بنور السجود والقيام. في هذه الليالي المباركة، تتفتح القلوب وتتساقط الدموع في رياض العبادة، وتتجمع شتات الأرواح في جو من السكينة، حيث يحلق الفكر بين جناحي الخوف والرجاء، متأملًا في المصير الأبدي.

رحلة إلى الله زادها العزم واليقين

الحياة ما هي إلا طريق طويل إلى الله، لا يقطعه إلا من امتلك العزم والشوق. لذلك، يستغل السائرون إلى الله هذه اللحظات المباركة لتقصير المسافة بينهم وبين بارئهم، فالدروب إلى الله مليئة بالتحديات، ولكنها تذلل بالمثابرة والصدق.

هذه الليالي تحمل هدوءًا وسكونًا يندر أن يجده الإنسان في زحام النهار، لذا قام أهل الإيمان ليستنشقوا عبيرها النقي بعيدًا عن صخب الحياة. وفي حين يخلد الكثيرون إلى الراحة والنوم، ينهض المخلصون ليستبقوا السباق نحو الجنة، امتثالًا لقوله تعالى:

﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].

مشهد الليل قيام وخشوع

عندما يحلّ الظلام، تتحرك الأقدام مسرعة نحو المساجد، تحمل أجسادًا تخشى الآخرة وترجو رحمة خالقها، فتقف صفوف المصلين بخشوع بين يدي الله، في مشهد يبعث الهيبة والرهبة، حيث تمتزج الأصوات بتلاوة القرآن، وترتفع الأكف بالدعاء، وتتزلزل القلوب بخشية الله.

﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [السجدة: 16].

أي لذة تفوق لذة هؤلاء القائمين في جوف الليل، وقد أسكرهم الخشوع وأحاط بهم النور الإلهي؟! لقد تذوقوا حلاوة القرب من الله، فهانت أمامها ملذات الدنيا.

السماء مفتوحة فهل من داعٍ؟

وفي هذه اللحظات، يفيض الفضل الإلهي، إذ قال النبي ﷺ:

“إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل يُعطى؟ هل من داعٍ يُستجاب له؟ هل من مستغفر يُغفر له؟ حتى ينفجر الصبح” (رواه مسلم).

إنها فرصة عظيمة لكل من أثقلته الذنوب، ولكل صاحب حاجة، ولكل باحث عن الصفاء الروحي، فباب التوبة مفتوح، والرحمة تنزل، والدعاء يُستجاب.

شرف المؤمن في قيامه بالليل

جاء جبريل إلى النبي ﷺ وقال له:

“يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس.”

فهنيئًا لمن أدرك هذه اللحظات، وهنيئًا لمن غسلت دموعه أدران قلبه، فارتقى بروحه، وتطهّر بالقيام والسجود، واكتسى وجهه نورًا من نور الخالق.

لحظات تتلاشى أمامها متاع الدنيا

ما أعظم هذه الأوقات، وما أبهى إشراقة الأرواح فيها! ففيها تتزين الوجوه بالنور، وتنشرح الصدور بذكر الله، وتشرق القلوب بأنوار القرآن، حتى يغدو أهل هذه اللحظات في نعيم لا يدركه إلا من ذاق حلاوته.

ومن أدرك هذه الليالي المباركة، فليغتنمها قبل أن تنقضي، وليجعلها زادًا لحياته، فوالله إنها أثمن من كنوز الدنيا، وأغلى من كل متاعها.

﴿ فَذَٰلِكَ ٱلْفَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ ﴾ [الجمعة: 4].

إنها لحظات مضيئة تفيض بالنقاء والصفاء، فهنيئًا لمن قضى ليالي رمضان بين يدي الله، فحصد المغفرة، ونال القرب من الرحيم الرحمن. فلنحرص على استغلال ما تبقى منها، ولنكن من أهلها، فإنها فرص قد لا تتكرر

رجوع القائمين أثر العبادة في الوجوه والقلوب

حين ينقضي الليل، ويحين وقت العودة من ساحات العبادة، يعود أولئك الصالحون بسيماهم النقية، قد أنارت وجوههم من أثر السجود، وامتلأت قلوبهم طمأنينة وسكينة. تراهم وكأنهم زرع طيب، نمت أغصانه، وامتدت جذوره في أرض الإيمان، فأثمرت نفوسًا زكية، وقلوبًا مفعمة بالنور، وأرواحًا تواقة إلى لقاء الله.

﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ﴾ [الفتح: 29].

لقد عادوا من رياض القرب وهم في حالة من الصفاء، وكأنهم نفضوا عن أرواحهم أدران الدنيا، فأصبحوا أكثر يقينًا، وأشد تعلقًا بالله، وأقرب إلى الاستقامة. ومن ذاق حلاوة هذه اللحظات، لا تعود الدنيا تعني له شيئًا إلا بقدر ما تقرّبه من الله.

ثمار هذه الليالي المباركة

من عاش هذه اللحظات الإيمانية، أيقن أنها ليست مجرد ليالٍ عابرة، بل هي محطات نور تمدّه بالعزم، وتزيده من زاد التقوى، وتعينه على صعوبات الحياة. فقيام الليل ليس مجرد عبادة، بل هو مصدر قوة، يضيء القلب، ويثبت الأقدام على طريق الاستقامة.

وقد قال بعض السلف:

“أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا.”

إنها لحظات تملأ القلب إيمانًا، وتترك أثرًا لا يُمحى في النفس، فحين يُقبل النهار، يحمل هؤلاء القائمون معهم شعورًا عظيمًا بالقرب من الله، وسكينة تغمرهم في كل خطوة، وقوة تعينهم على الاستمرار في الطاعة.

دعوة للاستمرار بعد رمضان

إذا كانت هذه الليالي قد منحت القائمين طعم القرب من الله، فليجعلوها عادة لا تنقطع بعد رمضان. فإن كان رمضان موسمًا للطاعة، فإن العاقل لا يترك ما ذاق حلاوته، ولا يهجر ما وجد فيه سعادته. فالله سبحانه وتعالى يُحب القائمين، وهو ينادي عباده كل ليلة:

“هل من سائل فأعطيه؟ هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟”

فلا تجعل هذه اللحظات تمر دون أن تترك أثرًا دائمًا في حياتك، وليكن رمضان نقطة تحول، لا مجرد محطة مؤقتة.

 ليس هناك نجاح أعظم من أن يخرج الإنسان من رمضان وقد غُفرت ذنوبه، وتطهّر قلبه، ونال القرب من الله. فالسعيد حقًا هو من فاز برضوان الله، وخرج من هذا الشهر الكريم بقلب حيّ، ونفس زكية، وإيمان متجدد.

فهنيئًا لمن أدرك هذه الفرصة العظيمة، وهنيئًا لمن أضاءت هذه الليالي قلبه، وهنيئًا لمن سار على هذا الطريق حتى يلقى الله، فإنها أعظم تجارة، وأربح صفقة.

﴿ وَٱلَّذِينَ جَاهَدُوا۟ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].

نداء القلوب بعد رمضان.

انقضت أيام رمضان ولياليه، ومرت ساعاته كلمح البصر، فهل بقي في القلوب أثره؟ وهل بقيت الروح مشتعلة بوهج الإيمان الذي أضاءها في ليالي القيام والخشوع؟

رمضان مدرسة عظيمة، ولكن الامتحان الحقيقي يبدأ بعده، حين تنقضي الليالي المباركة ويعود المرء إلى حياته اليومية. فهل يكون رمضان نقطة تحول حقيقية؟ أم مجرد محطة مؤقتة سرعان ما تُنسى؟

إن من ذاق لذة القرب من الله، لا يمكن أن يهجره بعد رمضان، بل يظل قلبه معلقًا بالمحراب، وعينه تدمع شوقًا لركعات السحر، ولسان حاله يقول: “يا رب، لا تحرمني لذة مناجاتك بعد رمضان!

لحظات القرب
لحظات القرب
علامات القبول بعد رمضان

إن علامة القبول أن يستمر العبد في طريق الطاعة بعد انتهاء رمضان، وألا يكون عبداً لمواسم الخير فقط، بل عبدًا لله في كل زمان ومكان. ومن دلائل قبول العمل:

1. المداومة على الطاعات – فلا يهجر المصحف بعد رمضان، ولا يترك صلاة القيام، وإن كان بقليل، فالقليل الدائم خير من الكثير المنقطع.

2. الإصرار على الاستغفار – لأن الصالحين يستغفرون بعد العمل، مخافة أن يكون فيه تقصير، كما كان الصحابة يكثرون الاستغفار بعد انقضاء رمضان.

3. حب مجالس الذكر – فمن ألف المساجد في رمضان، لا يمكن أن يستغني عن روحانيتها بعدها.

4. صلاح القلب بعد الشهر الفضيل – فمن كان رمضان سببًا في تزكية نفسه وتهذيب أخلاقه، فهذا من علامات القبول.

وقد قال بعض السلف: “ليس الصائم من صام عن الطعام والشراب، ولكن الصائم من صامت جوارحه عن الآثام.”

كن من عباد الله الدائمين لا الموسميين

العبادة ليست مرتبطة بشهر معين، فمن أحب الله حقًا، عبده في كل حين. وقد قال الحسن البصري:

“إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلًا دون الموت، ثم قرأ: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99].”

فلا تكن ممن يعبدون الله في رمضان، ثم يهجرونه بعده، بل اجعل ما اعتدته في رمضان بداية لطريق طويل في الطاعة والقرب من الله.

وداعًا رمضان وأهلًا بروح رمضان

إذا كان رمضان قد رحل بجسده، فلا تجعله يرحل بروحه، بل احمله معك في قلبك طوال العام. فليكن لسانك رطبًا بالذكر، وعيناك دامعة من الخشوع، وقلبك معلقًا بالله في كل وقت وحين.

فيا من سعدت بقيام الليل، لا تهجره! ويا من أنست بقراءة القرآن، لا تتركه! ويا من شعرت بحلاوة القرب من الله، لا ترضَ بالبعد عنه أبدًا!

نسأل الله أن يجعلنا من المقبولين، وأن يرزقنا الثبات بعد رمضان، حتى نلقاه وهو راضٍ عنا.

﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُوا۟ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَٰمُوا۟ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَـٰٓئِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا۟ وَلَا تَحْزَنُوا۟ وَأَبْشِرُوا۟ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30].

اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين، وثبتنا على طاعتك حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا.

مزيد من الخواطر الرمضانية