لئن أدركت رمضان ليَرينَّ اللهُ ما أصنع

غصون رمضانية

غصون رمضانية

ليلة مشهودة من رمضان، أشرقت أنوارٌ مباركة في السماء، متلألئة وسط سكون الليل العميق، لتنير طريق رجل اختاره الله لحمل رسالة عظيمة. في مكان بعيد، بعيدًا عن ظلمات مكة التي أحاطت به، وجد نفسه في حضرة نور الله، مترقبًا لحظة اللقاء بالوحي الذي سيبدد حيرته، وينتشله من ظلمات الشك إلى نور الهداية والعدل.

قال الله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]، وقال أيضًا: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ﴾ [الدخان: 3].

في غار حراء، امتزجت أنوار الوحي بالزمان والمكان، ليحمل النبي محمد صلى الله عليه وسلم هذا النور إلى البشرية، واضعًا حدًا لعصور من الظلام الروحي، ومعلنًا فجرًا جديدًا يمحو آثار الضلال، ويعيد القلوب إلى صفائها وطهارتها، فتتلألأ بنور التوحيد والإيمان.

بشرى النبوة نزلت في الغارِ

كالمسك فاحت بأطيب الأسرارِ

هزّت الدنيا بأنوار سطوعها

وأسدلت فجرًا على الأقدارِ

القرآن الكريم، كلام الله المنزّل، هو ماء الحياة الذي يروي الأرواح العطشى، يبعث النور في القلوب، ويمسح عن النفوس غبار الهموم والشكوك. فهو الهداية التي تنتشل الإنسان من ظلمات الحيرة إلى نور الحق.

ولأن شهر رمضان هو شهر القرآن، فإن الإكثار من تلاوته فيه سنة عظيمة، تذكرنا بنعمة الله علينا، وتحثنا على شكرها. كان النبي صلى الله عليه وسلم يتدارس القرآن مع جبريل في هذا الشهر، وأجر التلاوة فيه يتضاعف، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها”.

وفي رمضان، تهدأ النفس، وتصفو الروح، فيكون القلب أكثر استعدادًا لتدبر معاني القرآن، فتتحقق الاستقامة والهداية الحقيقية. ولهذا، كان السلف الصالح يعطون القرآن عناية خاصة، فكان الإمام مالك، والزهري، وسفيان الثوري وغيرهم، يتركون حلقات العلم في رمضان ليتفرغوا تمامًا لتلاوة كتاب الله.

أيها المسلم، هذه فرصة ثمينة، فاغتنمها، واجعل القرآن رفيقك في رمضان، لا تفتر عن قراءته، فالأيام تمضي سريعًا، والعمر محدود، والفوز عظيم لمن جعل القرآن أنيسه ودليله، وتدبر آياته بقلب حاضر وعقل واعٍ. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها”.

اجعل هذا الشهر نقطة تحول في علاقتك مع كتاب الله، واملأ أيامه ولياليه بتلاوته، فذلك هو الزاد الذي يبقى، والهداية التي تنير الدروب.

واجعل من رمضان بداية جديدة لعهدٍ مع القرآن، تلاوةً وتدبرًا وعملاً. فإن العبرة ليست في كثرة القراءة فقط، بل في حضور القلب والتأمل في المعاني، والتفاعل مع الآيات، لتكون نورًا يهديك في دروب الحياة.

إن القرآن ليس مجرد كلمات تُتلى، بل هو منهج حياة، ودستور إلهي يرسم لنا الطريق المستقيم. فمن تدبره وعمل به، أشرقت روحه، واطمأن قلبه، واستنارت بصيرته. قال تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ۝ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ﴾ [المائدة: 15-16].

فيا باغي الخير في رمضان، ها هو الباب مفتوح، والفرصة سانحة، فاجعل لك وردًا ثابتًا من القرآن، وأقبل عليه بقلبك وروحك، واسأل الله أن يجعلك من أهله، الذين هم أهل الله وخاصته.

ولا تنسَ أن التلاوة المثمرة هي التي تليها تطبيق وعمل، فمن قرأ القرآن، وتأمله، وامتثل أوامره، واجتنب نواهيه، كان بحقٍّ من الفائزين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خيركم من تعلم القرآن وعلّمه”. فليكن رمضان محطةً لتجديد علاقتك مع القرآن، وإشعال جذوة الإيمان في قلبك، حتى يظل هذا النور مشرقًا في حياتك بعد رمضان، نورًا لا ينطفئ، يهديك إلى كل خير، ويبعدك عن كل شر.

نسأل الله أن يجعل القرآن نور قلوبنا، وسراج أرواحنا، وهادينا إلى طريقه المستقيم، وأن يمنَّ علينا بفهمه، والعمل به، وأن يكون لنا شفيعًا يوم لا ينفع مال ولا بنون.

وما أجمل أن يكون القرآن رفيق دربك، تتلوه آناء الليل وأطراف النهار، فتأنس به روحك، وتستنير به جوارحك، وتسمو به نفسك. فهو شفاء للصدور، وطمأنينة للقلوب، وهدى لمن أراد الاستقامة والرشاد. قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].

غصون رمضانية
غصون رمضانية

رمضان فرصة لمن أراد العودة إلى الله، فهو موسم النفحات الربانية، وأيام البركة والرحمة، فمن لم يتقرب فيه إلى الله، فمتى يفعل؟ ومن لم يذق حلاوة القرآن في هذا الشهر، فمتى يذوقها؟ فلنحرص جميعًا على أن نكون من أهل القرآن الذين خصهم الله بمكانة عظيمة، وأعد لهم الأجر الجزيل.

وفي رحاب هذا الشهر الكريم، لا تكن ممن تمر عليهم أيامه ولياليه دون أن يستفيدوا من كنوزه، أو ممن ينشغلون عنه بلهو الحياة وشواغلها، بل كن من الذين يستثمرون لحظاته في الطاعات، ويجعلون تلاوة القرآن محورًا أساسيًا في يومهم وليلتهم.

واجعل نيتك خالصة لوجه الله، لا لمجرد العادة أو التعود، بل شوقًا لكلماته، وتدبرًا لآياته، واستجابة لدعوته، وسعيًا لنيل رضاه. فإذا ختمت القرآن مرة، فحاول أن تختمه مرة أخرى، وإن لم تستطع، فاقرأ منه ما استطعت، فالمهم ليس الكمية، بل التدبر والخشوع والعمل.

وأخيرًا، لنتذكر جميعًا أن القرآن ليس فقط ليُقرأ، بل ليُعمل به، فنسعى لتطبيق أوامره، ونتخلق بأخلاقه، ونجعل منه نبراسًا نهتدي به في حياتنا، فبه سننجو، وبه سنرتقي، وبه سنفوز في الدنيا والآخرة.

فاللهم اجعلنا من أهل القرآن، الذين يتلونه حق تلاوته، ويتدبرونه حق تدبره، ويعملون به حق العمل، واجعلنا ممن يقال لهم يوم القيامة: اقرأ وارقَ ورتل، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها.

مزيد من الخواطر الرمضانية