صيام اللسان
اللسان: عضو صغير ذو أثر عظيم
يُقال:
“إن اللّسان صغيرٌ جِرمُهُ وله جُرمٌ كبيرٌ كما قد قيل في المثل.”
فاللسان ليس مجرد عضو بسيط في الجسد، بل هو مفتاح لصاحبه، يمكن أن يرفعه إلى أعلى المراتب أو يهوي به إلى أدنى الدركات. به يكتسب الإنسان المحبة والاحترام، أو يجلب لنفسه العداء والنفور، وبه يحقق المكاسب أو يتعرض للخسائر.
بكلمة واحدة، يدخل الإنسان الإسلام أو يخرج منه، وبها تُثقل كفة حسناته أو تزداد سيئاته، كما يمكن أن تفتح له أبواب الجنة أو تُلقيه في النار. اللسان أداة تعكس شخصية صاحبه؛ فهو يعبر عن عقله وحكمته، أو يكشف جهله وطيشه، كما أنه ميزان الصدق والكذب، والفصاحة والعِيّ، والعفة والفحش.
اللسان مرآة العقل والروح
“إنَّ اللسانَ رسولُ القلبِ للبشرِ”
الكلام المنطوق يعكس ما يعتمل في النفس، فهو الواسطة التي خُص بها الإنسان ليفصح عما بداخله بسهولة ويسر، على عكس الأبكم الذي يجد مشقة في التعبير عن أفكاره.
ولأن اللسان بهذه المنزلة العظيمة، فإنه يصبح سلاحًا ذو حدين، فقد يكون سببًا في اكتساب الحسنات أو ارتكاب السيئات، وما يتفوه به الإنسان يُكتب في صحيفته ويحاسب عليه يوم القيامة، كما قال الله تعالى:
“مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ” [ق: 18].
الكلمة الطيبة صدقة والكلمة السيئة وزر
من فضائل اللسان نطق الشهادتين، وقراءة القرآن، والذكر، والدعاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر العلم النافع. وعلى النقيض، فإن من آفاته الكذب، والغيبة، والنميمة، والفحش، والاستهزاء، والخوض في أعراض الناس.
حكمة الصمت وضبط اللسان
السيطرة على اللسان ليست بالأمر السهل، لكنها ممكنة بالإيمان والعقل والتدريب. فمن عوّد لسانه على الخير، اعتاد عليه، ومن ضبط كلامه، سلم من العواقب الوخيمة. قال رسول الله ﷺ:
“من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت.”
الصمت عند الحاجة أفضل من الكلام الزائد، فهو يمنح الإنسان الوقار ويجنبه الزلات والندم. وكما قيل:
“سجنُ اللسان هو السلامة للفتى، من كل نازلةٍ لها استئصال.”
رمضان: مدرسة لضبط اللسان
من رحمة الله بعباده أنه جعل شهر رمضان دورة تدريبية لضبط اللسان، فكما نصوم عن الطعام والشراب، علينا أن نصوم عن الكلام السيئ. قال رسول الله ﷺ:
“من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه.”
كم من صائم تجده كثير الذكر والتلاوة، لكنه يجرح الناس بكلماته، غير مدرك أن جراحات اللسان أشد من جراح السنان:
“قد يُرْجَى لِجُرْحِ السَّيْفِ بُرْءٌ، وَجُرْحُ الَّدهْرِ مَا جَرَحَ اللَّسانُ.”
على المسلم أن يجعل لسانه وسيلة للخير، وأن يزينه بالكلام الطيب الذي ينفع ولا يضر، ويمتنع عن كل قول يؤذي الآخرين أو يجلب عليه الندم. فمن نجح في ضبط لسانه كما يضبط جوارحه في رمضان، فقد فاز فوزًا عظيمًا، وذاق حلاوة الصيام في الدنيا، وينتظر الأجر الجزيل في الآخرة
ثمار ضبط اللسان في الدنيا والآخرة
من ملك لسانه فقد ملك زمام أمره، إذ إنّ الكلمة قد ترفع صاحبها إلى مراتب العزة والشرف، أو تهوي به في مستنقع الذل والهوان. فمن حافظ على لسانه، عاش مرتاح الضمير، بعيدًا عن الندم والخصومات، كما قال الحكماء:
“وزنِ الكلام إذا نطقتَ بمجلسٍ
فيه يلوحُ لك الصوابُ اللائحُ”
أما في الآخرة، فإن حسن استعمال اللسان يكون سببًا في دخول الجنة، كما جاء في حديث النبي ﷺ:
“إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالًا، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا، يهوي بها في جهنم.”
اللسان بين الهلاك والنجاة
إذا كان اللسان سلاحًا قويًا، فإنه قد يكون أيضًا أداة للهلاك إذا لم يُحسن الإنسان استخدامه. فكم من كلمة أهلكت صاحبها، وأوقعت بين الناس العداوات والفتن، وكم من شخص لقي مصيره بسبب قولٍ لم يزنه قبل نطقه. ولهذا قيل:
“وجرحُ اللسان كجرح اليد،
والقولُ ينفذ ما لا تنفذُ الإبرُ.”
فلا ينبغي للإنسان أن يطلق العنان للسانه بلا قيد، بل عليه أن يزن كلماته بعقله، ويتأكد من أنها تحمل الخير قبل أن تخرج من فمه.
رمضان والتدريب على كبح اللسان
رمضان فرصة عظيمة للتدريب على ضبط اللسان، فكما يصوم المسلم عن الطعام والشراب، عليه أن يصوم عن كل قول يؤذي الآخرين. قال رسول الله ﷺ:
“إذا كان يومُ صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم.”
وهذا يدل على أن الصيام الحقيقي لا يقتصر على الامتناع عن الطعام والشراب، بل يشمل تهذيب الأخلاق وكبح اللسان عن كل ما يضر.

اللسان والنجاح في العلاقات الاجتماعية
الكلمة الطيبة تفتح القلوب، وتجعل الإنسان محبوبًا بين الناس، بينما الكلمة الجارحة تفسد العلاقات وتسبب القطيعة. قال أحد الحكماء:
“احفظ لسانك واحتفظ من شره،
إنّ اللسان هو العدوّ الكاشحُ.”
فالإنسان الذكي هو الذي يدرك أن حسن الكلام مفتاح للقلوب، وأنه يستطيع بكلمة طيبة أن يحقق ما لا تحققه الأموال والهدايا.
الخاتمة: فوز الدنيا والآخرة
من نجح في ضبط لسانه، فقد ضمن لنفسه حياةً كريمةً في الدنيا، وأملاً كبيرًا في الآخرة. فمن لزم الصمت عند الحاجة، ونطق بالخير عند الضرورة، فقد فاز بأعظم المكاسب. قال رسول الله ﷺ:
“من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت.”
فليكن هذا الحديث شعارًا لكل إنسان، وليكن اللسان أداة للخير، وسبيلاً للنجاح في الدنيا والآخرة، فإن الكلمة الطيبة ترفع صاحبها، وتكون له نورًا يوم يلقى الله.