صيام السمع
السمع مفتاح القلوب والعقول
السمع ليس مجرد حاسة طبيعية، بل هو بابٌ واسع يفتح للإنسان آفاق العلم والمعرفة، وهو وسيلةٌ لتلقي المواعظ والنصائح التي تهذب النفس وترتقي بالروح. فمن خلاله يتلقى المرء الكلمات التي تحيي قلبه وتوقظ ضميره، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37].
وفي المقابل، فإن الاستماع إلى الباطل والغفلة عن انتقاء ما يصل إلى الأذن قد يكون سببًا في فساد القلب وانحراف السلوك. لذا، كان الصحابة والتابعون حريصين على سماع العلم النافع، وتجنب كل ما يُضعف الإيمان، امتثالًا لقول النبي ﷺ: “كفى بالمرء كذبًا أن يُحدّث بكل ما سمع” [رواه مسلم].
كيف يحافظ الإنسان على أمانة السمع؟
لحفظ هذه النعمة واستثمارها فيما ينفع، يجب على المسلم اتباع بعض الخطوات العملية، منها:
1. الإصغاء إلى القرآن الكريم بتمعن وتدبر، وجعله غذاءً للروح، ومصدرًا للطمأنينة والتوجيه.
2. الانتقاء الواعي لما يسمع، فلا يُعرض أذنه للغيبة، والنميمة، والكلام الفاحش، بل يحرص على سماع الخير والعلم النافع.
3. تجنب سماع الإشاعات والأكاذيب، والتأكد من صحة ما يُنقل إليه، لئلا يكون سببًا في نشر الباطل دون قصد.
4. الابتعاد عن المحادثات التي تجرح القلوب، كالتي تمتلئ بالسخرية أو الفتن أو الإفساد.
5. الحرص على سماع النصائح والمواعظ، وتلقيها بقلب مفتوح، والعمل بها قدر المستطاع.
السمع في ميزان الأخلاق
الإنسان الحكيم هو الذي يستخدم سمعه فيما يرفع من شأنه، ويزيد من علمه، ويعزز مكانته الأخلاقية، كما قال معن بن أوس:
لعمرك ما أهويتُ كفّي لريبةٍ
ولا حملتني نحو فاحشةٍ رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها
ولا دلّني رأيي عليها ولا عقلي
فإذا كان البصر هو المرآة التي يرى بها الإنسان العالم، فإن السمع هو النافذة التي يدخل منها الحق إلى القلب، أو يتسرب منها الباطل، فيفسد عليه فطرته وسلامة روحه.
إن أمانة السمع تُحَتِّم على الإنسان أن يكون حارسًا أمينًا لما يدخل إلى قلبه عبر أذنه، فلا يستمع إلا لما فيه الخير والصلاح، ويتجنب كل ما يفسد قلبه وعقله. وكما يُحافظ الصائم على طعامه وشرابه ليكمل صومه، ينبغي له أن يُحافظ على سمعه ليحصل على صيامٍ كاملٍ في الجوارح، فيكون بذلك أقرب إلى الله، وأكثر استحقاقًا لرحمته ومغفرته.
اللهم اجعل سمعنا شاهدًا لنا لا علينا، واهدنا إلى ما تحب وترضى.
أمانة السمع وتأثيرها على الإنسان
وُلد الإنسان في هذه الحياة وهو يحمل أمانات عظيمة أودعها الله لديه ليحفظها ويؤدي حقوقها على أكمل وجه. وإن هو أضاعها وانشغل بشهواته، ازداد حسابه ثقلاً، وخسر عند الوقوف بين يدي الله يوم القيامة.
ومن أعظم هذه الأمانات: أمانة السمع، حيث قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36].
فالسمع نعمة وهبها الله للإنسان ليستعين بها في طلب المعرفة واستنارة البصيرة، كما قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78].
أثر السمع على الإنسان
الإنسان في رحلته في هذه الدنيا يسمع أصواتًا متعددة، منها ما يبعث السرور في القلب ومنها ما يسبب النفور. فهو يستمتع بسماع الأصوات الجميلة، فيشعر بالراحة والطمأنينة، بينما ينفر من الأصوات المزعجة ويتجنبها.

ومن أعذب ما يصل إلى الأذن هو تلاوة القرآن الكريم، فحين يكون الصوت حسنًا، تتغلغل كلماته في أعماق القلب، فتملؤه بالسكينة وتدفعه إلى اتباع الهدى، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 18].
ولشدة تأثير القرآن على النفوس، وصفه الكفار بأنه سحر يجذب القلوب، حتى إنهم كانوا يوصي بعضهم بعضًا بعدم الاستماع إليه، فقال الله عنهم: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26]. ومع ذلك، كان سماعه سببًا في دخول الكثيرين في الإسلام على مر العصور.
السمع وسيلة للتمييز بين الحق والباطل
من خلال هذه النعمة العظيمة، يتعلم الإنسان الأحكام الشرعية، فيعرف الحلال ويتبعه، ويدرك الحرام فيجتنبه، كما أنه ينعم بسماع صوت والديه وأحبائه، ويتلذذ بالأصوات التي تبعث الطمأنينة في روحه.
وعند التأمل في الكون، يدرك الإنسان أن كل شيء حوله يسبّح بحمد الله، بدءًا من حفيف الأشجار وتغريد الطيور، وصولًا إلى صوت المياه الجارية، وصدى الرعود في السماء. فكل ذلك دليل على عظمة الخالق، كما قال الشاعر:
ففي كل شيءٍ له آيةٌ
تدل على أنه الواحدُ
لكن مع الأسف، هناك من يُسيء استخدام هذه النعمة، فينصرف إلى سماع ما يفسد القلب، من كلام باطل وأغانٍ هابطة ودعوات إلى الفساد والانحراف، مما يؤثر على سلوكه وأخلاقه.
السمع في رمضان تهذيب وتزكية
عندما يُقبل رمضان، تتجدد في القلوب أنوار الإيمان، ويسعى المسلم إلى تهذيب جوارحه، فيحرص على انتقاء ما يسمعه، فيصغي إلى القرآن والموعظة الحسنة، ويتجنب اللغو والكلام الفاحش، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ [القصص: 55].
فالإنسان مسؤول عن كل ما يسمعه، وعليه أن يكون واعيًا في انتقاء ما يدخل إلى قلبه عبر أذنه، لأن ذلك ينعكس على أفعاله وأخلاقه، فيزيده قربًا من الله، أو يبعده عنه.
الخاتمة
إن أمانة السمع مسؤولية عظيمة ينبغي على الإنسان صيانتها واستعمالها فيما يرضي الله، والابتعاد عن كل ما يفسد القلب والروح. فكما يجب أن نحفظ ألسنتنا من النطق بالباطل، ينبغي أن نحفظ آذاننا من الاستماع إليه، حتى نظل على الطريق المستقيم، ونتجنب كل ما يُفسد صيامنا وأخلاقنا.