رمضان والحياه من جديد

رمضان والحياة من جديد

محطة الانطلاق 

مع اقتراب حلول شهر رمضان المبارك، تتجدد أشواقنا لاستقباله بكل فرح وترقب. ندرك جميعًا أن هذا الشهر الكريم سيمضي كما مضت الأيام والسنوات من قبله، وهذه سُنّة الحياة التي أرادها الله -سبحانه وتعالى-. الأيام الجميلة تمر سريعًا، وأحيانًا قد لا ندرك قيمتها إلا بعد أن تنقضي ونحن غارقون في زحام الحياة ومشاغلها.

لقد ازدانت الدنيا بزخارفها، حتى شغلت الكثيرين عن دورهم الحقيقي في هذه الحياة، فغفلوا عن الغاية السامية التي خُلقوا من أجلها، والتي قال الله عنها: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” [الذاريات: 56]. لهذا، ينبغي علينا أن نعتبر الدنيا مجرد وسيلة نتزود منها لما هو أعظم، فقد يسرقنا الزمن، ونجد أنفسنا فجأة في مواجهة النهاية، حيث نوقن حينها بعظمة حق الله علينا، ونتمنى لو أُتيح لنا مزيد من العمر لنعود إليه بتوبة صادقة. لكن يبقى السؤال: إن تحقق لنا ذلك، فهل سنعود إليه بصدق وإنابة، أم أننا سننسى ونتعلق بالدنيا مجددًا كما يفعل الكثيرون؟

في رمضان الماضي، كنت أعيش لحظاته وكأنه الأخير في حياتي، كنت أشعر بكل دقيقة تمر وأحرص على اغتنامها، طامعة في رضا الله وقبوله. وما هي إلا أيام حتى انقضى رمضان، وتوالت الشهور، ليأتي رمضان جديد، وكأن الله منحني فرصة أخرى، فتذكرت قوله تعالى: “وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ” [المنافقون: 10].

إنها حقيقة لا يمكن إنكارها؛ فحين يواجه الإنسان الموت، يتمنى لو مُنح لحظات إضافية ليزيد من أعمال الخير، رغم أن العمر كان أمامه لكنه لم يستثمره كما ينبغي. وعلى نفس النهج، يأتي الليل، ويسود السكون، وينام الناس وكأنهم أموات، ثم يستيقظون إلى يوم جديد، وكأن الله قد منحهم بعثًا جديدًا ليغتنموا فرص العمل الصالح. فهل يعتبر الإنسان من هذا الدرس اليومي؟

كذلك، حين يتعرض شخص لحادث خطير، ويظن الجميع أنه لن ينجو، ثم يمنّ الله عليه بالحياة من جديد، فهل يستشعر أنه حصل على فرصة أخرى ليصلح ما مضى ويعود إلى الله؟! نحن في حاجة ماسة إلى محاسبة أنفسنا بصدق، فهل سنظل في غفلتنا، أم أننا سنستثمر هذا الشهر الفضيل كما يجب؟

رمضان ليس مجرد أيام نصوم فيها عن الطعام والشراب، بل هو مدرسة روحية تهذب النفوس وتقوي العزائم. إنه فرصة عظيمة للعصاة والمذنبين، وغنيمة للصالحين، لكن الكثيرين يضيعون فضائله ويكتفون بالامتناع عن الأكل والشرب، متناسين جوهر الصيام الحقيقي!

تمامًا كما يحدث مع شخص غريق تتلاطمه الأمواج، ويكاد يفقد حياته، ثم يأتي من ينقذه في اللحظة الأخيرة، فيتنفس الصعداء، وكأنه قد وُلد من جديد. فهل سيدرك أنه حصل على فرصة ثمينة ليبدأ حياة جديدة بطاعة الله وتقوى؟

ومع دخول رمضان، نتذكر من كان معنا في العام الماضي، لكن الموت حال بينهم وبين إدراكه هذا العام. ترى، هل كانوا يعلمون أن رمضان الماضي كان آخر رمضان لهم؟ هل أعدوا العدة للقاء الله؟

حين يُعلن عن رؤية الهلال، نشعر بنسيم روحاني فريد، فلهذا الشهر خصوصية لا تُضاهى؛ إذ تُضاعف فيه الحسنات، وتعلو القلوب نحو ربها، وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. فالواجب علينا اغتنام هذه الفرصة العظيمة، وتوجيه قلوبنا لله بصدق.

فلنشكر الله على هذه النعمة، ولنكثف دعاءنا: “اللهم بلغنا رمضان”، ولنصلح ما بيننا وبين الله، وما بيننا وبين الناس، وما بيننا وبين أنفسنا، حتى يكون رمضان محطة تغيير حقيقية في حياتنا. فليس الهدف أن يكون تغييرًا مؤقتًا ينتهي بانتهاء الشهر، بل ينبغي أن يكون انطلاقة جديدة نحو رضا الله ومرضاته.

استثمار رمضان: انطلاقة نحو التغيير الحقيقي

مع حلول رمضان، نجد أنفسنا أمام فرصة ذهبية لا تُعوض، فرصة تُذكرنا بأن العمر يمضي سريعًا، وأن كل لحظة فيه يمكن أن تكون بداية جديدة لمن أراد العودة إلى الله بصدق. ولكن، هل سنغتنمها حقًا، أم سنتركها تمر كما مرت الأيام السابقة دون أثر؟

إن هذا الشهر ليس مجرد موسم عابر، بل هو محطة إيمانية عظيمة يمكن أن تكون نقطة تحول في حياة الإنسان. فهو شهر التغيير الحقيقي، الذي يجب أن نخرج منه بنفوس صافية، وقلوب نقية، وإرادة قوية لمواصلة طريق الطاعة بعد انتهائه.

مفاتيح استثمار رمضان بوعي وإخلاص

1. إصلاح النية وتجديد العهد مع الله

لا بد أن يكون دخول رمضان بدايةً لتغيير حقيقي، وليس مجرد التزام مؤقت. فالنية الصادقة، والعزم الأكيد على التقرب إلى الله، هما أول خطوة في طريق الاستفادة من رمضان. يقول النبي ﷺ: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى” [متفق عليه]. فلنكن صادقين في نوايانا، راغبين في الإصلاح والتقرب إلى الله، وليس مجرد أداء روتيني للعبادات.

2. المحافظة على الصلوات في أوقاتها

الصلاة هي عماد الدين، ولا يكتمل أي جهد روحاني دونها. فرمضان فرصة للتعود على إقامة الصلوات في وقتها، والحرص على أدائها بخشوع وطمأنينة، فليس الغرض منها مجرد إسقاط الفريضة، بل الشعور بالقرب من الله -عز وجل-.

3. الإكثار من قراءة القرآن وتدبره

رمضان هو شهر القرآن، فالله أنزل فيه كتابه الكريم ليكون نورًا وهداية للبشرية. قال تعالى: “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ” [البقرة: 185]. فليكن لنا ورد يومي من القرآن، مع الحرص على تدبر معانيه، وليس مجرد التلاوة السريعة دون فهم أو تدبر.

4. الإحسان إلى الآخرين وبذل الخير

رمضان هو شهر الرحمة والعطاء، فمن الضروري أن نمد يد العون لمن يحتاج، سواءً كان ذلك بالمساعدة المالية، أو بالكلمة الطيبة، أو بأي شكل من أشكال الخير. فقد قال النبي ﷺ: “أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس” [صحيح الجامع].

5. مجاهدة النفس والابتعاد عن المعاصي

إن الصيام لا يقتصر على الامتناع عن الطعام والشراب فقط، بل هو مدرسة لتربية النفس، وكبح الشهوات، والابتعاد عن المحرمات. قال النبي ﷺ: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” [البخاري]. فليكن رمضان فرصةً لمجاهدة النفس وتزكيتها، والتخلص من العادات السيئة، واستبدالها بعادات تقربنا من الله.

6. الحرص على قيام الليل وصلاة التراويح

لا شيء يضاهي لذة القيام بين يدي الله في جوف الليل، حيث تنهمر الدموع، وتسكن القلوب، ويشعر الإنسان بالقرب الحقيقي من خالقه. فرمضان هو فرصة ذهبية لتذوق هذه اللذة، والمواظبة على صلاة التراويح والتهجد، لعلها تكون عادة نستمر بها بعد رمضان.

7. استشعار قيمة الوقت وعدم إضاعته فيما لا ينفع

رمضان يمضي سريعًا، ولحظاته غالية، فلا ينبغي أن نهدره في اللهو أو الانشغال بأمور لا تعود علينا بالنفع. فلنجعل وقتنا موزعًا بين الطاعات، والتزود من الأعمال الصالحة، والاستفادة من كل لحظة فيه.

8. الدعاء وطلب المغفرة

رمضان هو شهر الإجابة والرحمة، فلنرفع أكفنا بالدعاء، ولنكثر من الاستغفار، ولنطلب من الله أن يعيننا على طاعته، ويثبتنا بعد رمضان، حتى يكون هذا الشهر بوابة تغيير حقيقي في حياتنا. قال رسول الله ﷺ: “ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم” [الترمذي].

رمضان والحياة من جديد
رمضان والحياة من جديد

رمضان محطة للانطلاق لا محطة للتوقف

علينا أن ندرك أن رمضان ليس مجرد شهر للطاعات المؤقتة، بل هو فرصة لتغيير دائم. فمن المحزن أن نجد من يجتهد في العبادة خلال رمضان، ثم يعود إلى حياته السابقة بمجرد انتهائه، وكأن شيئًا لم يكن.

فالحكمة ليست في كثرة العبادات في رمضان فقط، بل في الاستمرار عليها بعده، والتحول من العبادات الموسمية إلى عبادات دائمة ترسم لنا طريقًا واضحًا نحو رضا الله.

فلنسأل أنفسنا بصدق:

هل سيكون رمضان هذا العام نقطة تحول في حياتنا، أم سيمر كما مرّت رمضانات سابقة دون أثر؟

هل سنحافظ على صلواتنا، وقيامنا، وقراءة القرآن، بعد رمضان، أم سنعود إلى الغفلة والتهاون؟

هل سنتغير حقًا، أم سيبقى رمضان مجرد فترة مؤقتة نتعبد فيها، ثم نعود بعدها لما كنا عليه؟

إذا أدركنا قيمة هذا الشهر، وعزمنا على الاستفادة منه بصدق، فسنجد أن أثره سيبقى معنا طوال العام، وستكون هذه الأيام المباركة منطلقًا لروح جديدة، ونفس طاهرة، وقلب متعلق بالله.

اللهم بلغنا رمضان، وبارك لنا فيه، وأعنا على الصيام والقيام، وارزقنا القبول، واجعلنا من عتقائك من النار.. آمين.

رمضان فرصة لمن أراد أن يعود بصدق، فلنغتنمها قبل أن تنتهي الأعمار، وتضيع الفرص.

مزيد من الخواطر الرمضانية