رمضان مدرسة الإرادة: دروس وعبر في الصيام للأئمة والدعاة
مدرسة الإدارة
الحمد لله الواحد الأحد، الذي أوجد الكون بحكمته، ووسعت رحمته كل مخلوق، نحمده سبحانه ونشكره، فهو المحمود على كل لسان. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الغفور الرحيم، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، ذو المقام الرفيع، واللواء المرفوع، والحوض المورود، صلوات الله وسلامه عليه.
رمضان شهر بناء العزيمة وقوة الإرادة
يُعَدُّ شهر رمضان مدرسةً عظيمةً في تربية الإرادة وبناء العزيمة؛ إذ يتجاوز المسلم عاداته اليومية، ويتخلى عن المألوف، ويبتعد عن شهواته خلال ساعات الصيام، فينهض قبل الفجر للسحور، ويحافظ على الصلوات، ويمسك عن الطعام والشراب من الفجر حتى الغروب طيلة الشهر. كل ذلك يعزز قوته الداخلية، ويهذب أخلاقه، ويجعله أكثر صبرًا وانضباطًا.
وفي هذا الشهر، يملك الصائم فرصةً ذهبيةً لترويض نفسه على العادات الحسنة، سواء بالإقلاع عن التدخين، أو الالتزام بصلاة الفجر، أو المواظبة على تلاوة القرآن. ويؤكد علماء النفس أن التغيير يحتاج إلى تكرار السلوك لفترة تتراوح بين 6 إلى 21 يومًا، ورمضان يمنح المسلم مدةً أطول من ذلك، مما يجعله شهرًا مثاليًّا لإعادة برمجة العادات والسلوكيات.
رمضان مدرسة الثلاثين يومًا
يقول الأديب مصطفى صادق الرافعي عن رمضان: “في أي قانون من قوانين الدنيا تجد ثلاثين يومًا فُرضت لتربية الأمة وتعويدها على نمط معين من السلوك حتى يصبح جزءًا من حياتها؟!”. ثم يختم كلامه بقوله: “ألا ما أعظمك يا شهر رمضان! لو أدرك العالم قيمتك الحقيقية، لسماك مدرسة الثلاثين يومًا”.
إن قوة الإرادة التي يمنحها رمضان، لا تقتصر على الامتناع عن الطعام والشراب، بل تمتد إلى الالتزام بالوقت، والاجتهاد في العبادة، واستغلال الشهر في تحقيق التغيير الحقيقي، قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 62].
كيف نقوي إرادتنا؟
الإرادة القوية لا تأتي من فراغ، بل تحتاج إلى تدريبٍ وتخطيطٍ وسعيٍ مستمر، وهذا ما يعلمه لنا رمضان. ومن العوامل التي تعين المسلم على تقوية إرادته:
1. التربية ومجاهدة النفس:
تعلم في رمضان كيف تكتسب العادات الصالحة مثل قراءة القرآن، والصلاة، وصلة الأرحام، وكف الأذى، والإحسان إلى الناس.
2. المداومة على الطاعات:
الاستمرار في الأعمال الصالحة بعد رمضان هو خير دليل على نجاح المسلم في تحقيق التغيير؛ فقد قال الله تعالى: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99].
3. المسارعة وعدم التردد:
أهل العزيمة هم الذين يسارعون إلى الخيرات دون تأجيل، قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 61].
إن صاحب الإرادة لا يضيع وقته، ولا يستسلم للعجز، بل يسعى لتحقيق أهدافه بكل جدٍّ واجتهاد، قال الشاعر:
لأستسهلنَّ الصعبَ أو أدركَ المُنى ♦♦♦ فما انقادتِ الآمالُ إلا لصابرِ
أما من تهاون في استغلال وقته، ولم يحدد هدفه، فإنه يضيع عمره سدى، كما قال الشاعر:
ومَن رام العلا مِن غيرِ كَدٍّ ♦♦♦ أضاعَ العُمرَ في طلَبِ المُحالِ
الإرادة سبيل النجاح
كما أن الطالب المجتهد يسهر ليله ليحقق النجاح الدراسي، فإن الصائم الجاد يبذل جهده ليحقق النجاح الإيماني. فكلما كان للصائم هدفٌ واضحٌ من صيامه، كانت إرادته أقوى، وهمته أعلى.
الإرادة ليست مجرد أمنيات، بل استعداد وسعي، قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 19].
رمضان فرصة للتغيير
إذا كنت ترغب في التغيير، فابدأ بقوة الإرادة. وإذا عزمت على نيل الجنة، فهي تحتاج إلى عزيمة. وإذا هممت أن تنجو من النار، فلا بد من إرادةٍ صلبة. إن رمضان هو فرصتك العظيمة لتبدأ حياةً جديدةً، فانطلق بإرادتك القوية وعزيمتك الصادقة، ولا تؤجل، فقد لا تأتي الفرصة مرة أخرى.
قال الشاعر:
لا تقُلْ: مِنْ أين أَبْدَأْ = طاعةُ الله البدايَهْ
لا تقُلْ: أَيْنَ طريقي = شِرْعةُ الله الهدايَهْ
لا تقُلْ: أين نعيمي = جنَّةُ الله الكفايَهْ
لا تقُلْ: في الغدِ أَبْدَأْ = ربما تأتي النهايَهْ
الإخلاص أساس النجاح
إن قوة الإرادة لا تكتمل إلا بالإخلاص، فهو الذي يمنح الأعمال قيمتها، ويجعلها مقبولةً عند الله سبحانه وتعالى. فكل عملٍ لا يكون خالصًا لله، يبقى بلا أثر حقيقي، كما قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162-163].
وقد تكون النية الصادقة أرفع من العمل نفسه، فكم من عملٍ قليل رفعه الإخلاص، وكم من عملٍ كثير حُبط بسبب الرياء. قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“أخلص دينك، يكفك العمل القليل”.
فالإخلاص يجعل الأعمال مهما كانت صغيرة عظيمةً في ميزان الله، وعدم الإخلاص يجعل الجهد الكبير بلا فائدة.
المحافظة على الصلاة عنوان الإرادة الصادقة
إن من دلائل قوة الإرادة المحافظة على الصلاة، فهي عماد الدين، ومن تركها فقد أضاع كل شيء. يقول النبي صلى الله عليه وسلم عندما سُئل عن أحب الأعمال إلى الله:
“الصلاة على وقتها”، ثم قيل: “ثم أي؟”، قال: “بر الوالدين”، قيل: “ثم أي؟”، قال: “الجهاد في سبيل الله”
وقد توعد الله الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها بالعذاب، فقال:
﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴾ [الماعون: 4-5].
الصلاة في جماعة طريق إلى الجنة
حرص المسلم على أداء الصلاة في جماعة دليلٌ على قوة إرادته، فالله سبحانه وتعالى امتدح الذين يُعمرون المساجد، فقال:
﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَاةَ وَآتَى ٱلزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَىٰ أُو۟لَٰئِكَ أَن يَكُونُوا۟ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ ﴾ [التوبة: 18].
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة”.
إتقان العبادة والحرص على السنن
من صفات أصحاب الإرادة القوية، الحرص على إتمام عباداتهم بأفضل شكل، وذلك يشمل:
المحافظة على الصف الأول في الصلاة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا”.
التزين للصلاة: فقد أمرنا الله بذلك في قوله: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ [الأعراف: 31].
أداء السنن في البيت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة”.
الخشوع في الصلاة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها… نصفها”

الإرادة في العبادة والزكاة
رمضان شهر العطاء، وزكاة الفطر هي تعبيرٌ عن اكتمال العبادة فيه، فقد فرضها النبي صلى الله عليه وسلم طهرةً للصائم، وطعمةً للمساكين، وأمر بإخراجها قبل صلاة العيد.
رمضان انطلاقة إلى التغيير
رمضان ليس مجرد صيام عن الطعام والشراب، بل هو تدريب عملي على التحكم في النفس، وتقوية الإرادة، وإحداث التغيير الحقيقي في حياة الإنسان. فمن استثمر هذا الشهر كما ينبغي، خرج منه بإرادة قوية تجعله قادرًا على مواجهة التحديات، وتحقيق الأهداف، والارتقاء في درجات الطاعة والقرب من الله.
إنه شهر العزيمة، فإما أن يكون نقطة تحولٍ في حياة المسلم، أو يبقى مجرد ذكرى عابرة. والخيار بيدك!
ختامًا الإخلاص والإرادة سر النجاح
صاحب الإرادة يقول: “سأستعين بالله وأفعل”، أما العاجز فهو من يستسلم ويقول: “لا أستطيع”. إن رمضان يعلمنا أن الإرادة هي سر النجاح، سواء في الدنيا أو الآخرة، فلا تتردد، ولا تؤجل، وابدأ الآن، فإن الفرص لا تنتظر أحدًا.