رمضان في العهد العثماني

رمضان في العهد العثماني

رمضان: شهر التميز والروحانية

رمضان، ذلك الشهر الفريد الذي يحمل معه نفحات الإيمان والروحانية، يختلف عن بقية الشهور رغم تشابهها في عدد الأيام، إذ يمتاز بمظاهر وعادات تجعل منه تجربة استثنائية لا تُضاهى. إنه شهر القرآن والصيام، شهر الرحمة والمغفرة، حيث تُفتح أبواب الجنة وتُغلق أبواب النار، وتُحيى فيه ليلة القدر، التي يعلو فضلها على ثلاثة وثمانين عامًا من العبادة والطاعة.

رمضان عبر العصور الإسلامية

عند العودة إلى صفحات التاريخ، نجد أن رمضان كان يُحتفى به بطرق مختلفة عبر العصور الإسلامية، سواء في العهد الأموي أو العباسي أو المملوكي أو العثماني، حيث حمل كل عصر خصوصيته في إحياء هذا الشهر الكريم. وقد تميز العهد العثماني على وجه الخصوص بعادات وتقاليد رمضانية رسمت ملامح الشهر الفضيل بأسلوب فريد.

استطلاع هلال رمضان

كان تقليد استطلاع هلال رمضان يتم بشكل رسمي ومنظم في الدولة العثمانية، حيث كان قاضي إسطنبول يرسل خبراء لرؤية الهلال في مناطق مختلفة، وعند التحقق من ظهوره، يُعلن عن ذلك في أرجاء المدينة من خلال المنادين الذين يجوبون الشوارع، كما كانت تُضاء المساجد بشبكات من المصابيح فيما يُعرف بـ”الماهيه” لإعلام الناس بحلول الشهر الكريم. أما أول من يُبصر الهلال فكان يُكرَّم بهدايا قيمة من السلطان، تقديرًا لدوره في زفّ البشرى.

مظاهر رمضان في القصر العثماني

كان للقصر السلطاني طقوسه الخاصة في رمضان، حيث كان السلطان يُصدر مرسومًا يتضمن تعليمات خاصة بالشهر لضبط السوق والأسعار، والتأكد من جودة الأغذية، وصولًا إلى الإشراف على اختيار أفضل أنواع القمح لصناعة الخبز. كما كان الوعاظ مكلفين بتوعية الناس بأهمية صلاة الجماعة والالتزام بآداب الشهر.

وكان رئيس الفلكيين في القصر مسؤولًا عن إعداد “إمساكية رمضان” قبل حلوله بأيام، حيث تُعرض أولًا على السلطان وكبار رجال الدولة.

استقبال رمضان في القصر العثماني

كان استقبال رمضان يتم باحتفالات رسمية في القصر، حيث يتلقى السلطان برقيات التهنئة من سفراء الدول الأجنبية، كما يُنظم إفطار جماعي يشمل المسلمين وغير المسلمين لتعزيز التآلف بين أبناء الدولة. وكان السلطان ورجال الدولة يشرفون على ذبح الأضاحي وتوزيعها على الفقراء والمحتاجين.

العبادات والطقوس الرمضانية

العبادات في القصر العثماني كانت تُمارس بروحانية خاصة، حيث تقام صلاة التراويح بحضور السلطان وكبار رجال الدولة. وفي ليلة القدر، كانت تُضاء المساجد والساحات الكبرى مثل ميدان الطوبخانة في إسطنبول، في حين يحرص السلطان على حضور دروس تفسير القرآن التي تعقد طوال الشهر.

زيارة الأمانات المقدسة

من أبرز تقاليد القصر العثماني في رمضان زيارة جناح “الأمانات المقدسة” في قصر طوب قابي، حيث تُحفظ آثار النبي محمد ﷺ، ومنها بردته الشريفة وخصال من لحيته. وكان السلطان يُشرف شخصيًا على تنظيف الغرفة المخصصة لهذه الأمانات بماء الورد والإسفنج، وذلك في أجواء مهيبة تعكس التقدير العميق لهذه النفحات النبوية.

دور رجال الدولة في رمضان

كان المسؤولون العثمانيون يتسابقون في تقديم الخير خلال رمضان، حيث تُفتح قصورهم لاستقبال العامة على موائد الإفطار، ويُقدم لهم الطعام والهدايا. وكان من عادات الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) دعوة رجال الدولة للإفطار في اليوم الرابع من رمضان، بعد أن يكونوا قد أفطروا مع عائلاتهم في الأيام الأولى.

العادات الاجتماعية في إسطنبول

كان المجتمع العثماني يستعد لرمضان بتنظيف البيوت وتحضير الأطعمة الخاصة بالشهر. وكانت الأسواق تُغلق نهارًا وتفتح بعد الإفطار حتى أذان الفجر، حيث تُضاء بالمصابيح التي تعكس أجواء الشهر الكريم.

رمضان في العهد العثماني
رمضان في العهد العثماني

ومن أجمل التقاليد العثمانية “الماهيه”، وهي الزينة المضيئة التي تُعلق بين مآذن المساجد، وتُكتب بها عبارات دينية مثل “بسم الله” و”ليلة القدر”. وقد وثقت الرحالة الأوروبية جوليا باردوي هذه الظاهرة خلال زيارتها لإسطنبول في القرن التاسع عشر، مؤكدة أن أضواء رمضان في المدينة لا مثيل لها في أي عاصمة أوروبية.

العبادات والروحانيات الرمضانية

كانت المساجد تزدحم بالمصلين، حيث يحرص العلماء على إلقاء الدروس الدينية، بينما يجتمع الناس في صلاة التراويح وفي حلقات تلاوة القرآن الكريم.

أما السحور، فكان يُعلن عنه بإطلاق المدافع في المدن الكبرى، بينما كان المسحراتي يجوب الشوارع لإيقاظ الناس في القرى والمناطق الصغيرة. وعند اقتراب الفجر، تصدح المآذن بالصلاة على النبي ﷺ قبل الأذان، لتنبيه الناس بأن وقت الإمساك قد حان.

رمضان شهر الروحانية والتكافل

بهذه العادات والطقوس، كان رمضان في العهد العثماني شهرًا يفيض بالروحانية والتلاحم الاجتماعي، حيث تُجسد معاني الإيمان، ويُعاد إحياء قيم الخير والمودة بين الناس. ورغم مرور الزمن، لا يزال هذا الشهر الفضيل يحتفظ بجوهره كأعظم مواسم العبادة والتقرب إلى الله.

مزيد من الخواطر الرمضانية