رمضان: شهر الارتقاء بالروح وتجديد العزيمة
شهر الارتقاء بالروح
تظل نفس المؤمن في حالة من السعي الدائم نحو الرقي والسمو، إذ يدرك تمامًا أن حياته في الدنيا ليست سوى محطة عابرة، وليست الغاية التي يسعى لتحقيقها، بل إن الحياة الحقيقية والسعادة الأبدية تنتظره في الآخرة، حيث أعدها الله لمن أخلصوا العمل وسعوا بجد واجتهاد. ولذا، فإن المؤمن لا يدخر جهدًا في عمارة دنياه وفق منهج الله وسنة نبيه الكريم، ويحرص على اغتنام الفرص التي تعينه على الطاعات، لاسيما في المواسم العظيمة التي تفيض بالخيرات والبركات، ومن أبرزها شهر رمضان المبارك. ففي هذا الشهر الفضيل، تتجدد عزيمة المؤمن وتسمو همته، فيكثر من العبادات ويتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة، مستثمرًا كل لحظة لنيل المغفرة والرضوان. وقد جاء في القرآن الكريم الحث على المبادرة إلى الطاعات والسعي لنيل رضا الله، حيث يقول سبحانه:
﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴾ [الحديد: 21].
فالمؤمن ذو الهمة العالية لا يتوانى عن بذل الجهد في الطاعات، طامحًا إلى الدرجات الرفيعة في الجنة، فقد وعده الله بمكافأة عظيمة لقاء مسارعته إلى الخير، كما قال تعالى:
﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].
حثّ النبي ﷺ على علو الهمة
كان النبي ﷺ مثالًا يُحتذى في السمو والارتقاء، إذ حرص على تربية أصحابه على علو الهمة، وحثهم على السعي نحو معالي الأمور، فقال: “إن الله عز وجل يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سَفْسافها”. كما كان يدعو الله باستمرار أن يعيذه من العجز والكسل، ويعلم أصحابه هذا الدعاء ليكونوا دائمًا في سعي مستمر نحو الأفضل. ولم يكن هذا مجرد توجيه نظري، بل كان النبي ﷺ نموذجًا عمليًا في الاجتهاد، فلم يكن يتوانى عن الأعمال الصالحة، رغم أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
أهمية علو الهمة
الهمة العالية تدفع المؤمن إلى التنافس في ميادين الطاعة، فيتسابق مع غيره في الأعمال الصالحة، واضعًا نصب عينيه الفوز برضا الله ومغفرته، مصداقًا لقوله تعالى:
﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ [البقرة: 148].
فالمؤمن الحقيقي لا ينشغل بالمنافسة على أمور الدنيا الفانية، بل يسعى جاهدًا ليكون في مقدمة السباق إلى الخيرات، مستلهمًا من سيرة الصالحين الذين كانوا يقولون: “إن استطعت ألا يسبقك أحد إلى الله فافعل”.
رمضان وسمو الهمة
يعتبر شهر رمضان فرصة عظيمة لرفع الهمة، فهو موسم تضاعف فيه الحسنات وتُفتح فيه أبواب الرحمة. فيحرص المؤمن على الإكثار من الذكر والاستغفار، والاجتهاد في تلاوة القرآن، واغتنام الأوقات المباركة للدعاء، خاصة في أوقات السحر التي يُستجاب فيها الدعاء. كما يجمع بين صيام النهار وقيام الليل، ويسابق الزمن لينهل من بركات هذا الشهر العظيم. ومن أعظم الليالي التي يترقبها أصحاب الهمم العالية ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، حيث يتوجه فيها العباد إلى الله بالدعاء والعبادة، راجين مغفرته ورضوانه.
وصية للمؤمنين
على المؤمن ألا يسمح للكسل أو الفتور بأن يُضعف عزيمته، فالمكافآت العظمى في الآخرة تتطلب جهدًا وتعبًا في الدنيا. فمن أراد الراحة الأبدية، عليه أن يجتهد في الطاعات ويتحمل المشقة في سبيل الله، إذ لا ينال الدرجات العلا إلا أصحاب الهمم العالية. فكما قال الحكماء: “من أراد المعالي سهر الليالي”

إن رحلة الإيمان ليست طريقًا مفروشًا بالورود، بل هي مسار يتطلب جهدًا وعزيمة، وصبرًا على المشقة، وثباتًا أمام العقبات. فالمؤمن الحق هو الذي يدرك أن كل عمل صالح يقدمه في دنياه إنما هو زاد له في آخرته، وأن السباق إلى مغفرة الله ورضوانه هو أعظم سباق يمكن أن يشارك فيه. وكما قال أحد الصالحين: “إن لله عبادًا تسابقوا إلى الطاعات، فلم يرضوا إلا بالصدارة”.
علو الهمة ليس مجرد شعار، بل هو أسلوب حياة، يُترجم إلى أفعال يومية تقرب العبد من ربه، سواء كان ذلك في رمضان أو في غيره من أيام الله المباركة. فكل لحظة تُعد فرصة لإصلاح القلب، ورفع الدرجات، والتقرب إلى الله بالعمل الصالح، وكما قال تعالى:
﴿ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26].
وقفة تأمليه
هل نحن ممن يسابقون إلى الخيرات أم أننا نتهاون ونتكاسل؟
هل جعلنا من رمضان نقطة انطلاق لتجديد العهد مع الله؟
هل نحرص على استثمار أوقاتنا فيما يرفع درجتنا عند الله؟
الإجابة على هذه الأسئلة تحدد مدى صدق إيماننا ومدى سعينا للوصول إلى رضوان الله والفوز بجنته. فلنجعل كل يوم يمر فرصة للاقتراب خطوة أخرى من الله، ولنكن من أصحاب الهمم العالية الذين لا يرضون إلا بالمراتب الرفيعة في الدنيا والآخرة.
نسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يعيننا على الطاعات، وأن يجعلنا من عباده المتقين السابقين بالخيرات، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
نسأل الله أن يرزقنا الهمة العالية، ويجعلنا من المتسابقين إلى الخيرات، الفائزين برضاه وجنته.