طلاب الدعاة والعلم في رمضان

رمضان بين فرص التعبد وسبل التزهيد

رمضان بين فرص التعبد 

*الخطبة الأولى

الحمد لله الذي أمر عباده بعبادته وجعلها سببًا للفلاح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: أيها المسلمون، يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 21].

شهر رمضان هو موسم للطاعة والعمل، وساحة لتجارة رابحة مع الله، فهو لا يقتصر على الصيام فحسب، بل يشمل كل أوجه البر والتقوى، من قيامٍ وصدقةٍ وتلاوةِ قرآنٍ ودعاءٍ وذكرٍ وسائر العبادات. ومع ذلك، نرى ضعف الاجتهاد في العبادة لدى بعض المسلمين، حيث يُقضى الشهر في النوم والكسل أو في متابعة القنوات ووسائل التواصل، بينما كان الأولى أن يكون موسمًا للعبادة والاستزادة من الخير، قال الله تعالى: (وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) [الأنبياء: 73].

أيها الإخوة، رغم انتشار العلم والمعرفة واهتمام المسلمين بقدوم رمضان، فإن هذا الاهتمام النظري لا ينعكس دائمًا على أرض الواقع، حيث نجد من يتكاسل عن الصلوات، ويتأخر في الذهاب إلى المسجد، ويفوّت تكبيرة الإحرام، ويهمل السنن الرواتب، بل حتى من لا يفتح المصحف إلا نادرًا. كما أن البعض يستهين بصلاة التراويح، أو يتهاون في تفطير الصائمين والصدقة على المحتاجين، وهذه كلها مظاهر لضعف التعبد في رمضان، وغفلة عن رحمة الله ومغفرته.

إن المصيبة الكبرى أن يصل الأمر ببعض المسلمين إلى التفريط في الفرائض، فمن المؤسف أن يكون هناك من يترك الصلاة، أو يتخلف عن الجماعة، أو يتهاون في أداء الزكاة رغم وجوبها عليه. أما المؤمن الحق، فإنه لا يفرط في الفرائض، بل يجتهد أيضًا في السنن والنوافل ويحرص على كل عمل صالح يقربه إلى الله، فهو يتسابق إلى الخيرات ويحرص على المداومة عليها، لا ينشغل عنها ولا يزهد فيها، بل يجعلها جزءًا أساسيًا من حياته.

أيها الأحبة، من أراد أن يستثمر رمضان فليجعل العبادة أولوية في يومه، فإن أذّن للصلاة فليبادر إلى المسجد، وإذا دخله فليغتنم الوقت في الذكر والقراءة والدعاء، ولا يتعجل بالخروج بعد الصلاة بل يجلس ليستغفر ويتلو ما تيسر من القرآن، ويحافظ على صلاة التراويح، ويلتزم بها حتى ينصرف الإمام لينال أجر قيام ليلة كاملة.

وكذلك عليه أن يسارع في تفطير الصائمين، ويسهم في مشروعات الخير، ويعين المحتاجين ويواسي المنكوبين، فإن للعبادات والطاعات أثرًا عظيمًا على الفرد والمجتمع، فهي دواء للأمراض القلبية، وسبب للسكينة والطمأنينة، وبابٌ لرفع البلاء عن الأمة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 153].

وفي الحديث القدسي الذي رواه البخاري، قال الله تعالى: “وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه…”، فالمؤمن كلما ازداد قربًا من الله بالطاعات زاده الله نورًا وتوفيقًا وحفظًا.

فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ووفقنا لصالح الأعمال، واغفر لنا تقصيرنا، إنك أنت الغفور الرحيم.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

*الخطبة الثانية

الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتزودوا من الأعمال الصالحة قبل لقاء ربكم، واحذروا من المثبطين الذين يثنون العزائم عن الطاعات، فتجد من يقلل من شأن ختم القرآن ويزعم أن التدبر وحده هو الأهم، أو من يزهد في الصدقات بحجة أن الأهل أولى بالمال، أو من يقلل من شأن صلاة التراويح ويعتبرها مجرد نافلة لا تستحق العناية، أو من يشكك في مشروعات تفطير الصائمين بحجج واهية.

كل هؤلاء وأمثالهم يقفون عائقًا أمام أبواب الخير، ويحاولون صرف الناس عنها تحت شعارات زائفة، فاحذروا منهم، واضربوا في كل بابٍ من أبواب الخير بسهم، فإن لم يتزود المرء في رمضان، فمتى عساه أن يفعل؟! وإن لم يستثمر أوقاته في الطاعة في هذا الشهر المبارك، فمتى سيفعل؟!

وتذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم: “رَغِمَ أنفُ رجلٍ دخل عليه رمضانُ ثم انسلخ قبل أن يُغفر له” [رواه الترمذي وصححه الألباني]، ومعنى ذلك أنه خسر خسرانًا عظيمًا، لأنه ضيع فرصة عظيمة للمغفرة والرحمة والعتق من النيران.

نسأل الله أن يجعلنا من المقبولين في هذا الشهر الفضيل، وأن يوفقنا لصالح الأعمال، وأن يعيننا على الصيام والقيام وتلاوة القرآن، وأن يتقبل منا صالح الأعمال، إنه سميع مجيب.

رمضان بين فرص التعبد وسبل التزهيد
رمضان بين فرص التعبد وسبل التزهيد

استكمال الخطبة الثانية

أيها المسلمون، إن العبادة ليست مجرد طقوس شكلية، وإنما هي روحٌ تحيي القلوب، وتزكي النفوس، وتُقرِّب العبد من مولاه. فكلما ازداد الإنسان في الطاعة، زاد إيمانه وقويت صلته بالله، وكان ذلك سببًا في استقامة أحواله وسعادته في الدنيا والآخرة.

وإن من علامات الصدق في العبادة أن يحرص العبد على الاستمرار عليها بعد رمضان، فمن كان حريصًا على الصلاة، وقراءة القرآن، والقيام، والصدقة، فليجعل من رمضان محطة انطلاق لا مجرد وقفة مؤقتة، فالمؤمن الحق لا يتوقف عن العبادة بانتهاء المواسم، وإنما يجعلها نهجًا لحياته.

يقول الله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99]، أي حتى الموت. فلا يكن حالنا كمن يجتهد في رمضان ثم يعود إلى الغفلة بعده، فإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

أيها المسلمون، اعلموا أن في كل طاعة بابًا من الرحمة، وفي كل عبادة خيرًا عظيمًا يعود عليكم في دنياكم وأخراكم. فلا تحقرن من المعروف شيئًا، ولا تستهينوا بصغير الطاعات، فإن الله يضاعف الأجر ويجزي بالإحسان إحسانًا.

اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين، وارزقنا الإخلاص في القول والعمل، واغفر لنا تقصيرنا، وتقبل منا أعمالنا، وأعنا على طاعتك في رمضان وما بعده، ووفقنا لما تحب وترضى.

اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة، والنجاة من الفتن، والفوز بجنات النعيم. اللهم اجعلنا من المقبولين، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، واغفر لنا ولأحبابنا، وارزقنا القبول والتوفيق، إنك أنت السميع العليم.

ختام الخطبة الثانية

أيها الإخوة المؤمنون، لقد أنعم الله علينا بشهر رمضان، ووهبنا فيه فرصة عظيمة لمغفرة الذنوب، ورفع الدرجات، ومضاعفة الحسنات، فلا تضيعوا هذه الفرصة العظيمة، ولا تكونوا من الغافلين الذين يفرطون فيها ثم يندمون حين لا ينفع الندم.

تذكروا أن رمضان مدرسة للتقوى، فمن صام وقام إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن أخلص لله في عمله نال عظيم الأجر والثواب. فاجعلوا هذا الشهر بدايةً جديدةً لعهدٍ مع الله، يُبنى على الطاعة والعبادة والحرص على الخيرات.

واعلموا أن من علامات القبول أن يستمر العبد على الطاعة بعد رمضان، فلا يكن رمضان مجرد محطة مؤقتة، بل اجعلوه نقطة انطلاق نحو الاستقامة والالتزام، فالعبد لا يعبد ربه في رمضان فقط، بل في كل وقت وحين.

يا عباد الله، احرصوا على الطاعات، وابتعدوا عن المعاصي، وكونوا من المسارعين إلى الخير، فإن الجنة تنتظر أهل الإيمان والعمل الصالح، والنار أُعدّت لمن أعرض عن ذكر الله واستغرق في شهواته.

اللهم اجعلنا من أهل الطاعة والاستقامة، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم تقبل صيامنا وقيامنا، واغفر لنا خطايانا، وأدخلنا جنتك برحمتك، وأجرنا من النار.

اللهم اختم لنا رمضان بقبول الأعمال، واعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا من النار، واجعلنا من عتقائك في هذا الشهر الفضيل.

اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون. فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

وأقم الصلاة.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

مزيد من الخواطر الرمضانية