رحيل الأيام العشر الأولى
الأيام العشر الأولى
ها هي الأيام العشر الأولى من رمضان قد انقضت أو تكاد، ومع رحيلها تتردد في النفس تساؤلات كثيرة حول ما حققناه خلالها، وما الذي بقي لنا منها؟ أي أثر تركته في نفوسنا، وأي دروس تعلمناها؟
أين موقع الدين في حياتنا؟
أول ما يبرز من تساؤلات: ما مدى حضور الدين في أولوياتنا؟ هل نعيش من أجله، أم أننا نعيش لأنفسنا فقط؟ كم نبذل في سبيله من وقت وجهد؟ فالعيش بحد ذاته لا يميز الإنسان عن غيره من الكائنات، لكن الهمم العالية والأهداف السامية هي التي تصنع الفارق. ونحن الآن على مشارف العشر الوسطى، فهل سيكون حالنا كحال من قال الله فيهم: “رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ”؟
لقد سطّر التاريخ سير العظماء الذين جعلوا همّ الدين في مقدمة حياتهم، فمن أراد أن يرى العلم متجسدًا فلينظر إلى الحسن البصري، ومن أراد مثالًا في الورع فلينظر إلى ابن سيرين، ومن أراد نموذجًا في العبادة فلينظر إلى ثابت البناني، ومن أراد حفظ الحديث فلينظر إلى قتادة. ترى، هل نسير نحن على خطى هؤلاء؟
هل لا زلنا نعيش أجواء رمضان؟
مع دخول الشهر المبارك، غمرتنا فرحة عظيمة، فهل لا تزال تلك المشاعر حاضرة في قلوبنا؟ أم أننا عدنا سريعًا إلى برود المشاعر وضعف الهمة؟ رحم الله سلفنا الصالح، فقد كانت سيرهم أشبه بالأساطير حين نسمع عن عبادتهم وخشوعهم. سعيد بن المسيب لم تفته صلاة الجماعة أربعين عامًا، ومسروق كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه، وأبو مسلم الخولاني كان يقول: “لو رأيت الجنة أو النار رأي عين لما استطعت أن أزيد في عملي”.
ولكن، ماذا عنّا اليوم؟ كم صلاة في الجماعة فاتتنا؟ كم نافلة ضاعت وسط مشاغل الحياة؟ كم مرة وقعنا في الغيبة والنميمة؟ كم نظرة حرام أطلقناها؟ كم خطوة خاطئة خطوناها؟ إن كل معصية، مهما بدت صغيرة، تترك أثرًا في القلب وتثقل النفس، وكما قال العلماء: “أي شيء في المعصية لا يجعلك تكرهها؟ أهو الوقت الضائع؟ أم أثرها في قلبك وعقلك؟ أم ثقل الطاعة بعدها؟ أم خوفك من أن يأتي الموت وأنت بعيد عن طريق الصالحين؟”
ماذا قدمنا لمجتمعنا في رمضان؟
يا أيها الدعاة والمصلحون، ماذا قدمتم لمجتمعاتكم خلال هذا الشهر الفضيل؟ هل نجحتم في تبليغ الرسالة بأسلوب مؤثر؟ إن البائع ينجح بقدر ما يحسن عرض بضاعته، فهل أحسنّا نحن عرض قيم ديننا للناس؟ هل لمس أهلنا وجيراننا أثرًا إيجابيًا منّا؟ رمضان فرصة سانحة لنكون قدوة، فهل انتهزناها؟ لا تجعل نفسك خارج دائرة الإصلاح مهما كانت ظروفك، فكل فرد مسؤول عن دوره، وحين نهرب من المسؤولية فإننا نغرق في متاهة نحتاج لمن يخرجنا منها.
لقد كان العلماء يدركون أهمية التأثير في المجتمع، حتى قال أبو إسحاق الفزاري: “ما رأيت مثل الأوزاعي والثوري، فالأوزاعي كان رجل عامة، والثوري كان رجل خاصة، ولو خيّرت لهذه الأمة لاخترت لها الأوزاعي”، أي أن تأثير العالم في عموم الناس هو ما يخلق الفرق الحقيقي.
العبرة فيما بقي من رمضان:
انقضت العشر الأولى، وإذا كنا قد قصّرنا فلا يفيد الندم وحده، فما بقي من الشهر أعظم مما مضى، فلنحرص على أن نري الله من أنفسنا خيرًا، ولنتجنب التسويف والتهاون، فليس هناك ما يضمن لنا أن نبلغ رمضان القادم. الرحيل قادم لا محالة، والخسارة الحقيقية ليست في الأمور الدنيوية، بل في تضييع فرص الطاعة والقرب من الله.
وداعًا يا عشر رمضان الأول، وأسأل الله أن يجعلنا من الفائزين فيما تبقى من أيام الشهر الفضيل، وأن يعيننا على اغتنامه كما ينبغي.
المحطة القادمة: العشر الأواسط
لقد ودعنا العشر الأول من رمضان، لكن الطريق لم ينتهِ بعد، فما زالت أمامنا العشر الأواسط، وهي مرحلة اختبار حقيقي لثباتنا واستمراريتنا. لم يكن رمضان يومًا أو أسبوعًا من الحماس المؤقت، بل هو مدرسة تمتد لشهر كامل، تقيس قدرتنا على ضبط النفس، والثبات على الطاعة، والإخلاص في العمل.
في هذه الأيام تتجلى رحمة الله في أبهى صورها، فهي أيام المغفرة، حيث يغفر الله لعباده ما تقدم من ذنوبهم إن هم أخلصوا النية وسلكوا طريق التوبة. فهل سنكون من الفائزين بعفوه؟ أم أننا سنظل أسرى التكاسل والتراخي؟
العبادة ليست سباقًا مؤقتًا:
كثيرًا ما نشهد حماسًا في بدايات رمضان، حيث تعمر المساجد بالمصلين، وتكثر تلاوات القرآن، ويحرص الناس على فعل الخيرات، لكن سرعان ما تبدأ الهمم في الفتور، وكأن العبادة كانت مجرد محطة عابرة. فيا ترى، هل نعبد الله في أول رمضان فقط، ثم نترك الطاعات مع مرور الأيام؟ أم أننا نقتدي بمن كان رمضان لهم شهر اجتهاد كامل لا ينقطع؟
لقد كان سلفنا الصالح يستقبلون رمضان بروح متجددة كل يوم، فلا يضعفون، ولا يملّون، ولا يكلّون. فقد روي عن الإمام مالك أنه كان إذا دخل رمضان، أغلق كتبه وتفرغ للقرآن، وكأنما أراد أن يرسل لنا رسالة واضحة: “رمضان للقرآن، فإياك أن تضيّعه في غير ذلك”.
ماذا عن ليلة القدر؟
إذا كانت العشر الأواسط أيام المغفرة، فإن العشر الأواخر هي فرصتنا الكبرى، حيث تتنزل فيها ليلة القدر، الليلة التي هي خير من ألف شهر. هل يمكن أن نفرط في هذه الجائزة العظيمة؟ هل سننتظر حتى نهايتها ثم نندم أننا لم نستثمرها جيدًا؟ إن أعمارنا قصيرة، ولكن الله جعل لنا ليلة تعادل 83 عامًا من العبادة، فكيف سنستقبلها؟
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها، وكان يعتكف في المسجد، ويوقظ أهله، ويشد المئزر. فهل لدينا من العزيمة ما يجعلنا نقتدي به ولو بقدر يسير؟
وقفة للمحاسبة قبل فوات الأوان:
إننا اليوم في منتصف رمضان، وهذه لحظة حاسمة لمراجعة أنفسنا. هل قمنا بما يكفي؟ هل غلبتنا الغفلة؟ هل نحن راضون عن أدائنا؟ لا يزال أمامنا وقت، فلا نجعل الحزن على التقصير يعوقنا عن التعويض. ما بقي من رمضان كنز ثمين، وكل دقيقة فيه فرصة جديدة، فلنستغلها قبل أن نندم حين لا ينفع الندم.
فلنري الله من أنفسنا خيرًا، ولنجعل هذا الشهر نقطة تحول حقيقية في حياتنا، وليس مجرد ذكرى تمر كل عام دون أثر.
أسأل الله أن يرزقنا القبول، وأن يكتبنا من المعتوقين من النار، وأن يجعل لنا في رمضان هذا علامة فارقة نحو الأفضل.
العشر الأواخر الفرصة الأخيرة:
ها نحن نقترب من ختام الشهر المبارك، وقد دخلنا في العشر الأواخر، وهي خلاصة رمضان وجوهره. فكيف سنستقبلها؟ هل سنجتهد فيها كما ينبغي، أم سنفرط كما فرطنا من قبل؟
لقد كان النبي ﷺ إذا دخلت العشر الأواخر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله. إنها أيام العتق من النار، وليلة القدر تنتظر من يحرص على قيامها، فهل سنكون من أهلها؟
كم من رمضان مرّ علينا ولم نبلغ ليلة القدر؟ وكم مرة سمعنا فضلها لكننا لم نستثمرها؟ يقول الله تعالى: “لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ”، فهل نحن مستعدون لنيل هذا الأجر العظيم؟
الاعتكاف عبادة المنقطعين إلى الله:
كان السلف الصالح يحرصون على الاعتكاف في العشر الأواخر، يقطعون صلتهم بالدنيا، ويتفرغون للعبادة والذكر والتضرع. فهل جربنا أن نعتكف ولو لساعات؟ أن نختلي بأنفسنا مع الله بعيدًا عن مشاغل الحياة؟
إن لم نستطع الاعتكاف في المسجد، فلنخصص وقتًا يوميًا للخلوة مع الله، بين تلاوة وقيام واستغفار، لعلها تكون لحظة يكتب فيها الله لنا القبول.

حان وقت التغيير الحقيقي:
رمضان ليس مجرد موسم للطاعات ينتهي ثم نعود لما كنا عليه، بل هو محطة تجديد للعهد مع الله. فإن كنا قد عزمنا على التغيير، فليكن رمضان نقطة البداية، وليس ذكرى عابرة.
لنحاسب أنفسنا بصدق:
هل تغير سلوكنا؟
هل زادت محبتنا للعبادة؟
هل استطعنا التخلص من الذنوب والعادات السيئة؟
إذا لم نشعر بأي تغير، فعلينا أن نعيد النظر في كيفية استثمارنا لهذا الشهر. فلا معنى للصيام والقيام دون أثر يبقى في حياتنا بعد رمضان.
وداعًا يا رمضان
ما هي إلا أيام معدودة ويرحل رمضان، وسيبقى أثره في القلوب، إما شافعًا لنا أو شاهدًا علينا. فهل سنكون ممن اغتنموه كما ينبغي؟
اللهم اجعلنا من المقبولين، وأعنا على استثمار ما بقي من هذا الشهر، واكتب لنا العتق من النار، واجعلنا ممن أدركوا ليلة القدر.