حلية الأخلاق
حلية الأخلاق
ما أجمل أن تزهر هذه القيم الرفيعة في بستان الصيام، فتنمو جذورها وتترسخ، ثم تتحول إلى أشجار وارفة تُؤتي أُكلها بعد رمضان، فينعم بثمرها الصائم ومن حوله.
إن الأخلاق هي المقياس الحقيقي للصيام، فكلما ازداد حسن الخلق، ارتقى الصيام، وإذا فسد الخلق، دلّ ذلك على ضعف الصيام ونقص أثره.
فالصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو تهذيبٌ للنفس، وارتقاءٌ بالروح، وتدريبٌ على ضبط الشهوات والتحكم في الأهواء. فمن لم يثمر صيامه خُلقًا حسنًا وسلوكًا قويمًا، فليعلم أن هناك نقصًا في صومه، وعليه أن يسعى لإصلاحه.
وما أعظم أن يبقى أثر رمضان في نفوسنا بعد انقضائه، فتظل القلوب صافية، والألسن عفيفة، والتعاملات قائمة على الرفق واللين، وكأن روح الصيام ما زالت تسري في حياتنا، فتكون أخلاقنا زادًا دائمًا لا ينحصر في شهر واحد، بل يمتد ليكون منهج حياة على مدار العام.
إن من أسمى الغايات التي يسعى إليها الصيام هو تزكية النفوس وتهذيب الأخلاق، فلا يكون الصائم صادقًا في صيامه إلا إذا انعكست هذه العبادة على سلوكياته ومعاملاته مع الآخرين. فكم من صائم لم ينل من صيامه إلا الجوع والعطش، لأنه لم يُحسن التحلي بحسن الخلق، ولم يضبط جوارحه عن الأذى، فكان صومه ناقصًا لا يحقق المقصود منه.
ولذلك، ينبغي على المسلم أن يجعل من رمضان محطةً للتغيير الإيجابي، وأن يستمر على ما اكتسبه من فضائل بعد انقضاء الشهر الفضيل. فالصبر الذي تعلمه في أيام الصيام يجب أن يكون خلقًا دائمًا، والعفو والتسامح الذي مارسه مع الآخرين ينبغي أن يبقى نهجًا في حياته، والكرم والبذل الذي كان سمتًا له في رمضان لا ينبغي أن يتوقف بانتهاء الشهر، بل يجب أن يكون عادة مستمرة.
وما أجمل أن يكون رمضان بدايةً لطريق جديد، تُرسم فيه معالم التقوى، ويُؤسس فيه لمنهج أخلاقي قويم، يستمر مع المسلم طوال حياته، فيكون رمضان نقطة انطلاق نحو الأفضل، لا مجرد فترة عابرة سرعان ما يعود بعدها الإنسان إلى سابق عهده.
فليكن رمضان فرصةً لإصلاح القلوب، وتهذيب النفوس، وبناء الأخلاق، حتى نظفر بثماره في الدنيا وننال بها رضا الله في الآخرة.
فلنحرص جميعًا على أن يكون صيامنا شاهدًا لنا لا علينا، وأن نغرس في أنفسنا فضائل الأخلاق، لنحصد ثمارها الطيبة في الدنيا والآخرة.
ولا شك أن سوء الأخلاق الذي يظهر على بعض الصائمين إنما هو دليل على خلل في صيامهم، وعليهم أن يراجعوا أنفسهم قبل أن يُرفع العمل، وينقضي الشهر، ويرحل الضيف الكريم، فتضيع الفرصة وتُهدم الأسواق المليئة بالخيرات.
إن أعظم ما يتركه رمضان في نفوسنا هو ذلك النقاء الروحي والصفاء الأخلاقي الذي يسمو بنا فوق الشهوات والأهواء، فالصيام مدرسة يتعلم فيها الإنسان الصبر، والتسامح، وكظم الغيظ، والإحسان إلى الناس. وإذا كان المرء قد درّب نفسه في هذا الشهر على الترفع عن الصغائر، وضبط انفعالاته، والسمو بأخلاقه، فحريٌّ به ألا يكون هذا التحول مؤقتًا ينتهي بانتهاء رمضان، بل ينبغي أن يستمر أثره في حياته كلها.

فما أجمل أن يبقى المسلم بعد رمضان محافظًا على صفاء قلبه، وعفّة لسانه، وصدق حديثه، وحسن تعامله مع من حوله، مستشعرًا أن العبادة ليست مرتبطة بزمان، وإنما هي أسلوب حياة يرتقي به الإنسان في دنياه وآخرته.
إن من علامات قبول العمل أن يستمر العبد على الطاعة بعد انتهاء الموسم، فمن وجد في نفسه حرصًا على الخير، وإقبالًا على الطاعات، واستمرارًا على مكارم الأخلاق، فليحمد الله، وليعلم أن الله قد بارك له في صيامه، وأثمر في قلبه ثمارًا طيبة.
فلنجعل من رمضان نقطة تحول حقيقية، لا محطة عابرة، ولنجعل الأخلاق الرفيعة التي زرعها في نفوسنا منهجًا دائمًا، حتى نظل على صلة دائمة بروح هذا الشهر الكريم، ونعيش في ضيائه طوال العام.
وهكذا، فإن أعظم ما يمكن أن نجنيه من رمضان ليس مجرد الامتناع عن الطعام والشراب، بل هو اكتساب تلك الروحانية العميقة التي تسمو بالإنسان فوق الماديات، وتجعله أقرب إلى الله وإلى معاني الخير والرحمة. فإذا كان رمضان يعلمنا الصبر والإخلاص وحب العطاء، فجدير بنا أن نحافظ على هذه القيم ونجعلها جزءًا لا يتجزأ من سلوكنا اليومي.
إن الاستمرار في الطاعة بعد رمضان هو برهان على صدق الإيمان، ودليل على أن الروح قد تذوقت حلاوة القرب من الله، فارتقت في مدارج السمو، وابتعدت عن مكدرات النفس وأدران المعاصي. فليس العبرة بكثرة الطاعات في موسم معين، وإنما العبرة بقدرتنا على الثبات والاستمرارية، والتفاعل مع الحياة بقلب نقي وروح متسامية.
فلنجعل من كل يوم فرصة جديدة لمراجعة أنفسنا، ولتجديد العهد مع الله، ولنحرص على أن تبقى روح رمضان نابضة في حياتنا، فنحيا بالصدق، ونعامل الآخرين بالإحسان، ونظل أوفياء لعهود الخير التي قطعناها على أنفسنا في هذا الشهر الكريم. فبذلك، نحظى بحياة ملؤها البركة والرضا، ونستحق أن نكون من عباد الله الذين قال فيهم: “إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون” (فصلت: 30).