تأملات في وداع رمضان

تأملات في وداع رمضان

تأملات في وداع رمضان واستقبال العيد

جلس صاحبي في مصلى العيد متأملاً، تتزاحم في ذهنه الذكريات وتعيده إلى أيام وليالٍ مضت وكأنها لحظات قصيرة. كان يسترجع تفاصيل شهر كامل، انقضى سريعًا ولم يشعر به إلا وهو يودّعه. أحس بغصة في قلبه، خاصة عندما قارن نفسه بمن حوله، أولئك الذين اجتهدوا وسبقوه إلى الخير، بينما هو كان يتردد ويتكاسل حتى وجد نفسه في مؤخرة الركب.

أخذ يسترجع أعماله في هذا الشهر الفضيل، متفحصًا كل صفحة من صفحات طاعته. عندما قلب صفحة تلاوة القرآن، وجد نفسه قد أنهى بالكاد ختمة واحدة بعد عناء، في حين أن غيره أتمّ خمسًا أو عشر ختمات. حاول أن يعزي نفسه، لكنه أدرك أن تقصيره كان واضحًا.

ثم انتقل إلى صفحة العطاء والصدقة، وهو يعلم أن الله منحه من النعم الكثير، لكنه وجد أن ما قدمه لا يكاد يليق بما أعطاه الله من المال. ألمه هذا الشعور، خاصة حين أدرك أن هناك من بذل أكثر منه رغم قلة ذات يده.

حاول أن يجد ما يخفف من وطأة شعوره بالذنب، فقلب صفحة أخرى، فوجد نفسه في مواجهة صوم الجوارح. تذكر ليالي كثيرة أطلق فيها بصره وسمعه ولسانه بلا حساب، وجلسات امتدت مع رفاقه أمام شاشات تعرض ما لا يليق بهذا الشهر الكريم. أيقن أنه أضاع كثيرًا من الفرص، وأنه انشغل بمسابقات دنيوية لا جدوى منها، بينما كانت أبواب الجنة مفتوحة أمامه ولم يغتنمها.

رفع بصره، فرأى في المصلى فريقين من الناس: فريقًا من أصحابه يضحكون ويلبسون الجديد، وأمامهم فريق آخر من العباد الصالحين، وجوههم تفيض بالبشر والسرور، لا لأنهم خرجوا من رمضان، بل لأنهم وفقوا فيه واجتهدوا، فأدرك أنهم لم يفرحوا بثياب جديدة، بل بسعادة الرضا عن النفس والقرب من الله.

تذكر حينها تلك العبارة التي سمعها في خطبة العيد: “ليس العيد لمن لبس الجديد، ولكنه لمن رضي عنه رب العبيد وأعتقه من العذاب الشديد”.

خرج من المصلى، وعاهد نفسه أن يكون رمضان القادم مختلفًا. أدرك أن العمر يمضي، وأن الموت قد اختطف أحباء وأصدقاء، لكنه ما زال حيًا بفضل الله ليغتنم فرصة جديدة. ملأ قلبه شوقٌ لهذا الشهر الفضيل، كيف لا وهو يسمع قول النبي ﷺ: “من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه”، “ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه”، و**”من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه”**؟

أيُلام على شوقه وهو يسمع أن أبواب الجنة تفتح في رمضان، وأبواب النار تغلق، والشياطين تصفد؟ لا يلومه أحد، فهو يدرك أن هذه النعم ليست من أجل الجبال ولا الملائكة، بل لأجله وأجل المؤمنين جميعًا.

لهذا، رفع يديه إلى السماء ودعا: “اللهم سلمني لرمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلاً”، راجيًا أن يكون رمضان القادم نقطة تحول في حياته، وأن يكتب اسمه في سجل الفائزين برضا الله ونعيم جنته.

ومضى صاحبي من المصلى بخطوات مفعمة بالعزم، يمضي بين جموع المصلين، وقلبه يغلي بمشاعر مختلطة من الندم والتصميم. لقد أيقن أن الحياة ليست إلا فرصة، وأن رمضان ليس مجرد شهر يمضي، بل محطة للتغيير الحقيقي، وبوابة لرحمة الله الواسعة.

لم يكن وحيدًا في هذا الشعور، بل رأى في وجوه كثيرة من حوله أثر هذه الأيام المباركة، بعضهم فرح بما قدم، وبعضهم حزين على ما فرط. لكن الفارق بين الاثنين أن الأول اجتهد ولم يدع فرصة تمر دون استغلالها، والثاني غلبه الهوى، فتراخى حتى فاته الركب.

عاهد نفسه أمام الله أن يجعل رمضان القادم مختلفًا، أن يكون بداية حقيقية للثبات على الطاعة، لا محطة عابرة يعود بعدها إلى ما كان عليه. أدرك أن رمضان ليس مجرد سباق مؤقت، بل دورة تدريبية لتغيير النفس، وتهذيب القلب، وصقل الروح.

تأملات في وداع رمضان
تأملات في وداع رمضان

لقد فهم أن العيد ليس فقط ثيابًا جديدة ووجوهًا باسمة، بل هو فرحة الرضا عن النفس، والشعور بقرب الله، واليقين بأن الجائزة الكبرى تنتظره في الآخرة.

خرج من المصلى، وبدأت خطواته تتجه نحو بيته، لكن عقله وقلبه كانا في مكان آخر، في رمضان القادم، في الليالي التي سيقومها، والآيات التي سيحفظها، والصدقات التي سيبذلها، والذنوب التي لن يعود إليها.

وفي داخله، همس لنفسه: “إن بلغني الله رمضان القادم، فوالله ليَرينّ اللهُ مني ما يسُرّه!”

اللهم اجعلنا ممن يصدقون العهد، ويثبتون بعد رمضان كما كانوا فيه، ولا تجعلنا من الذين يعبدونك شهرًا وينسونك دهرًا. اللهم سلم لنا رمضان، وسلمنا له، وتقبله منا بقبول حسن، إنك أنت السميع العليم.

نسأل الله أن يعيننا جميعًا على استغلال أوقاتنا فيما يرضيه، وألا يحرمنا فضله برحمته وعظيم كرمه، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.

مزيد من الخواطر الرمضانية