عندما كنت غريبا في رمضان

الصيام عند الأمم السابقة

الصيام عند الامم

الصيام من العبادات التي فرضها الله على الأمم السابقة، كما ورد في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). وقد ورد عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: “إذا سمعت الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فأنصت لها، فإنها خير يُؤمر به أو شر يُنهى عنه”.

الصيام في الشرائع السابقة

1. صيام عاشوراء

كان أهل الكتاب يصومون اليوم العاشر من شهر محرم، الموافق لليوم العاشر من أكتوبر، احتفاءً بنجاة النبي موسى -عليه السلام- ومن آمن معه من بطش فرعون. وعندما هاجر النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وجد اليهود يصومونه، فسألهم عن السبب، فأخبروه أنه يوم نصر الله فيه موسى وقومه. فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: “نحن أحق بموسى منكم”، فصامه وأمر بصيامه، وكان حينها واجبًا على المسلمين، إلى أن فُرض صيام رمضان، فأصبح مستحبًا، حيث قال الرسول قبل وفاته: “إذا كان العام المقبل -إن شاء الله- صمنا اليوم التاسع”، لكنه -عليه الصلاة والسلام- تُوفي قبل أن يحل العام الجديد.

2. صيام يومي الإثنين والخميس

كان اليهود يعتقدون أن النبي موسى -عليه السلام- صعد جبل سيناء يوم الخميس ونزل يوم الإثنين، لذلك كانوا يصومون هذين اليومين. وعلى الرغم من توافق المسلمين معهم في صيامهما، إلا أن العلة مختلفة، حيث ورد في الحديث النبوي: “هما يومان تُفتح فيهما أبواب السماء وتُعرض الأعمال على الله، فنحب أن تُعرض أعمالنا ونحن صائمون”. أما ما يدّعيه اليهود حول صعود موسى إلى الجبل، فهو يتعارض مع النصوص القرآنية، حيث قال الله تعالى: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى)، والوادي ليس جبلًا. كما أن الله أمر موسى بالنظر إلى الجبل عندما طلب رؤيته، فلما تجلى الله له جعله دكًا، مما يؤكد استحالة صعود موسى إليه.

3. اختيار يوم العبادة

كان أهل الكتاب يبحثون عن أفضل يوم في الأسبوع للتفرغ للعبادة، لكنهم لم يُوفقوا في اختياره. فقد اختار اليهود يوم السبت معتقدين أن الله استراح فيه -تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا- بعد خلق السماوات والأرض، بينما اختارت النصارى يوم الأحد. أما أمة الإسلام فقد هداها الله ليوم الجمعة، كما ورد في الحديث: “أضل الله من كان قبلنا، فكان لليهود السبت، وللنصارى الأحد، وهدانا الله ليوم الجمعة”. وهو اليوم الذي خُلق فيه آدم، وأُهبط إلى الأرض، وتُقبل فيه الدعوات، وستقوم فيه الساعة.

4. طريقة الصيام

كان أهل الكتاب يؤخرون الإفطار حتى منتصف الليل أو أكثر، وأحيانًا يواصلون الصيام دون انقطاع، فجاء الإسلام بالتيسير، فأمر بتعجيل الإفطار وتأخير السحور، ونهى عن الوصال في الصيام، كما ورد في الحديث: “لا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر وأخّروا السحور”. وجاء الإسلام ليميز بين صيام المسلمين وصيام أهل الكتاب، حيث قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: “فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر”.

5. علاقة الصيام بالشيطان

كان بعض أهل الكتاب يعتقدون أن الشياطين تدخل في العصاة فقط، ولا تخرج منهم إلا بالصيام. لكن هذه الفكرة غير صحيحة، لأن الشيطان قد يغوي الصالح والطالح، ويزداد تأثيره بالمعصية، ويضعف بالطاعة. وقد أوضح النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك بقوله: “إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيقوا عليه بالصيام”.

تحريف الصيام عند أهل الكتاب:

عندما فرض الله عليهم الصيام ثلاثين يومًا، واجهوا صعوبة في الصيام خلال الأجواء الحارة، فقرروا تغيير موعده إلى فصل الربيع، وهذا هو “النسيء” الذي حرّمه الله في القرآن الكريم. ثم زادوا عليه عشرة أيام كفارة، فأصبح أربعين يومًا، ثم أضاف أحد ملوكهم سبعة أيام أخرى بعد شفائه من مرضه، وأمر ملك آخر بعده بزيادة ثلاثة أيام، ليصل إجمالي الصيام إلى خمسين يومًا موزعة على السنة.

أنواع الصيام عند اليهود والنصارى

عند اليهود

صوم إجباري (جماعي): يشمل أربعة أيام تحددها القيادات الدينية، ومنها:

يوم الغفران للتكفير عن الخطايا.

يوم قبل المعارك الحربية.

يوم وفاة الملك أو القائد.

يوم توقع حدوث كارثة.

صوم اختياري (فردي): لأغراض التوبة أو دفع الأذى.

عند النصارى

تختلف مدة الصيام باختلاف الطوائف (الكاثوليك، البروتستانت، الأرثوذكس)، ولكنهم يتفقون جميعًا على صيام يوم 25 ديسمبر، احتفالًا بعيد ميلاد المسيح -كما يزعمون-. كما يصوم بعضهم أربعين يومًا، لكنها تحولت لدى البعض إلى أربعين ساعة فقط.

ضوابط الصيام عندهم:

يمتنع اليهود والنصارى عن الأكل والشرب والجماع من منتصف الليل حتى الظهر، أما القادرون منهم فيصومون حتى قبل الغروب بساعة.

صيامهم لا يشمل جميع الأطعمة، بل يمتنعون فقط عن اللحوم ومشتقات الحيوان ذات اللون الأبيض، كالحليب والزبدة، بينما يُسمح لهم بأكل الأطعمة النباتية.

في بعض المناسبات الدينية، يُسمح بأكل الأسماك والفواكه فقط.

الخلافات بين اليهود والنصارى حول الصيام:

بمرور الزمن، وقع الخلاف بين الطائفتين حول الأيام التي يُفضل صيامها. فقد حرم اليهود صيام يوم الأحد، بينما فضّله النصارى، كما نقلوا صيام يومي الإثنين والخميس إلى الأربعاء والجمعة، مما يعكس التغييرات التي أدخلوها تبعًا للأهواء الشخصية، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى:

(وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

الصيام وسيلة لتحقيق التقوى:

تُشير الآية الكريمة (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) إلى أن الصيام شُرع لتحقيق التقوى، أي أن يجعل العبد بينه وبين المعاصي حاجزًا يحميه من الانزلاق فيها. وكما وصف عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- التقوى بأنها السير في طريق مليء بالأشواك، حيث يتجنب الإنسان السقوط والانحراف، فإن الصيام يُربي في المسلم هذه الرقابة الذاتية ويقيه من اتباع الهوى والانحراف عن تعاليم الدين.

الصيام في الإسلام: تيسير ورحمة

على عكس التحريفات التي أدخلها أهل الكتاب على الصيام، جاء الإسلام بشريعة متوازنة تراعي الفطرة الإنسانية، حيث شرع الله صيام شهر رمضان بمدة ثابتة، لا تقبل الزيادة أو النقصان تبعًا للأهواء، وأمر بتعجيل الإفطار وتأخير السحور تسهيلًا على المسلمين.

ومن مظاهر التيسير في الصيام الإسلامي:

إباحة الفطر في حالات العذر مثل المرض والسفر، مع وجوب القضاء أو الفدية حسب الحالة.

تحريم الوصال في الصيام، حتى لا يُرهق المسلم نفسه، بخلاف ما كان يفعله بعض أهل الكتاب الذين كانوا يمتنعون عن الطعام والشراب لساعات طويلة قد تمتد إلى منتصف الليل.

الإفطار على تمر أو ماء كما كان يفعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو أمر يجمع بين الفائدة الصحية والامتثال لأمر الله.

الصيام عند الأمم السابقة
الصيام عند الأمم السابقة

الهدف الأسمى من الصيام:

إن الهدف من الصيام ليس الامتناع عن الطعام والشراب فقط، بل تحقيق التقوى، كما جاء في قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). فالصيام مدرسة إيمانية تُهذب النفس، وتُعلم الصبر، وتُرسخ معاني الإخلاص، حيث يمتنع العبد عن المفطرات خفيةً وعلانيةً، ابتغاء مرضاة الله.

وقد شبه الصحابي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- التقوى برجل يسير في طريق مليء بالأشواك، فيحرص على تجنبها، وهكذا هو الصائم، يجاهد نفسه ليبتعد عن المحرمات، ويزداد قربًا من الله بالطاعات.

خاتمة

الصيام عبادة عظيمة، شرعها الله للأمم السابقة، لكنهم انحرفوا عن أصلها، بينما جاء الإسلام ليعيد لهذه العبادة جوهرها الصحيح، فكان الصيام في الإسلام تربيةً للنفس، وتقويمًا للسلوك، وتعزيزًا لمعاني الرحمة والتضامن بين المسلمين.

اللهم اجعلنا من الصائمين القانتين، وثبتنا على طاعتك، ووفقنا لبلوغ التقوى التي أمرتنا بها. آمين.

اللهم ثبتنا على دينك، وأعنا على صيامك، واجعلنا من عبادك المتقين. آمين.

مزيد من الخواطر الرمضانية