إمكانية التغيير في رمضان
التغيير في رمضان
يُقال إن الطبع يغلب التطبّع، ويُقال أيضًا: “يموت الزمّار وأصابعه تلعب”، وهذه العبارات تعكس نظرة تشاؤمية تُثبط العزائم وتحدّ من قدرات الإنسان على التطور. ولكن، هل وُلِد أحد بمهارة العزف مثلًا، أم أن الأمر تطلب تعلمًا، تدريبًا، وصبرًا حتى صار عادة ومهارة متقنة؟
إن التغيير ممكن، بل هو جزء من طبيعة الإنسان، فبإمكاننا ترويض أنفسنا على الخير، والارتقاء بعاداتنا وسلوكياتنا من خلال التكرار والمثابرة. هذا المفهوم ليس بعيدًا عن تعاليم ديننا الحنيف، حيث نجد في القرآن الكريم قوله تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: 50)، أي أن الله منح كل مخلوق خصائصه ثم هداه إلى ما يصلحه.
كما قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الإنسان: 2-3)، مما يؤكد أن الإنسان مخير في سلوكه، ويمكنه توجيه نفسه إلى الخير أو الشر وفقًا لما يختاره لنفسه.
ويؤكد الشهيد سيد قطب في تفسيره للآيات أن الإنسان مخلوق بطبيعة مزدوجة؛ فهو مزيج بين الطين الأرضي والنفخة الإلهية، مما يجعله قادرًا على الخير والشر على حدٍّ سواء، والرسالات السماوية جاءت لتوقظ نوازع الخير في داخله، لكنها لا تخلقها، لأنها مغروسة فيه منذ نشأته.
ومن المبادئ الأساسية التي قررها القرآن الكريم أن التغيير يبدأ من الداخل، حيث قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد: 11). فالتحولات التي يشهدها الأفراد والمجتمعات لا تحدث عشوائيًا، وإنما تتبع القوانين الإلهية التي تربط بين الأحوال الداخلية للناس وبين واقعهم.
أما السنة النبوية، فقد أكدت هذا المفهوم بوضوح، حيث قال رسول الله ﷺ: “الخير عادة، والشر لجاجة، ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين” (رواه ابن ماجة). وهذا يدل على أن كل خلق أو سلوك يمكن اكتسابه بالممارسة والتكرار، حتى يصبح جزءًا من طبيعة الإنسان.
ويؤكد العلماء أن العادات تتكون من خلال التكرار والمداومة، فمن يحرص على تصرف معين ويستمر عليه، يصبح ذلك جزءًا من شخصيته، وهذا ما أشار إليه النبي ﷺ بقوله: “إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرَّ الخير يُعطَه، ومن يتق الشر يُوقَه” (رواه الطبراني).
لذا، لا ينبغي الاستسلام للعادات السلبية بحجة أنها طبع متأصل، بل يجب السعي لتغييرها والتدرّب على الفضائل حتى تصبح جزءًا من السلوك اليومي. وهذا ما ينطبق على جميع الجوانب الحياتية، سواء في التعلم، أو الصبر، أو العفة، أو الكرم، فجميع هذه الصفات تُكتسب بالمجاهدة والاستمرار.
وقد جعل الله شهر رمضان فرصة ثمينة لإعادة برمجة النفس، والتدرّب على الفضائل، والتخلي عن العادات السيئة. حيث قال الإمام ابن القيم رحمه الله: إن الصيام يهدف إلى تهذيب النفس، وكبح الشهوات، وإعداد الإنسان لتلقي المعاني الروحية العظيمة، ولهذا وصفه النبي ﷺ بأنه “جُنّة”، أي وقاية وحصن يحمي الإنسان من الشهوات والمعاصي.
وفي الختام، علينا أن نؤمن بأن التغيير ممكن، وأن الإرادة القوية مع الاستعانة بالله قادرة على تحويل أي عادة سلبية إلى عادة إيجابية. فالمجاهدة والصبر والمثابرة هي مفتاح التطور والرقي، والله سبحانه وعد من يجاهد نفسه بالهداية، كما قال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69).
نسأل الله أن يعيننا على تزكية أنفسنا، والارتقاء بأخلاقنا، لنكون ممن يسيرون في دروب الخير والصلاح.
لقد أودع الله في الإنسان قدرة فريدة على التكيف والتطور، فهو ليس محكومًا بطباعه الأولى، بل قادرٌ على تغييرها واكتساب عادات جديدة من خلال التعلم والممارسة المستمرة. ومن هنا، فإن كل إنسان مسؤول عن بناء شخصيته، وتنقية نفسه من العادات السلبية، وتعويدها على الخير حتى يصبح سجيّة له.
التغيير بين الفطرة والتعويد:
الإنسان يُولد على الفطرة السليمة، كما جاء في الحديث النبوي: “كل مولود يُولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه” (متفق عليه). أي أن البيئة والمحيط لهما تأثير بالغ في تشكيل شخصية الإنسان، وهنا يأتي دور المجاهدة والسعي الدائم للحفاظ على نقاء الفطرة والعودة إليها متى انحرف عنها الإنسان.
وقد أكد العلماء أن الأخلاق الحسنة تارة تكون بالفطرة، وتارة أخرى تكون بالتعوّد والتدريب المستمر، أو من خلال صحبة الصالحين ومشاهدة سلوكياتهم، لأن الإنسان بطبيعته يتأثر بمن حوله. لذا، فمن أراد أن يتحلّى بصفات حميدة كالكرم أو الحلم أو الصبر، فعليه أن يمارس هذه الأخلاق حتى تصبح جزءًا من شخصيته.
رمضان: مدرسة التغيير
يأتي شهر رمضان ليكون فرصة ذهبية لإعادة برمجة النفس والعقل، فهو مدرسة عملية لترسيخ العادات الإيجابية وترك السلبيات، حيث يُدرّب المسلم على الصبر، والانضباط، وكبح الشهوات، والمداومة على الطاعات، مما يسهل عليه التمسك بهذه العادات بعد انتهاء الشهر الكريم.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:
“كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية لتستعد لطلب ما فيه سعادتها ونعيمها الدائم، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسَوْرتها، ويذكّرها بحال الفقراء والمحتاجين، كما أنه يضيق مجاري الشيطان في البدن، فيضعف تأثيره، ويقوّي الإرادة والعزيمة على الخير.”
لهذا، فإن رمضان ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو تجربة تربوية تهدف إلى تهذيب النفس، وتعويدها على الفضائل، وتقوية الإرادة، مما يجعل المسلم قادرًا على الاستمرار في هذه العادات بعد انتهاء الشهر الفضيل.

خطوات عملية لاكتساب العادات الجيدة
1. التدرج في التغيير: لا يمكن تغيير العادات بين ليلة وضحاها، بل يحتاج الأمر إلى خطوات صغيرة ومتدرجة. فمن أراد المواظبة على قيام الليل، أو قراءة القرآن يوميًا، أو ترك عادة سيئة، فعليه البدء بأهداف صغيرة ثم زيادتها تدريجيًا.
2. الاستمرارية والممارسة اليومية: العادة تتشكل بالتكرار، وكلما واظب الإنسان على فعل معين، أصبح جزءًا من حياته اليومية.
3. صحبة الصالحين: البيئة المحيطة لها تأثير قوي، فمن أراد الالتزام بعادة حسنة، فليحرص على مصاحبة من يساعدونه على ذلك.
4. الاستعانة بالله والدعاء: لا يتم أي تغيير دون توفيق الله، لذا ينبغي للمسلم أن يطلب العون من الله دائمًا، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العنكبوت: 69).
5. الصبر وعدم الاستسلام: قد يواجه الإنسان صعوبات في البداية، لكن عليه ألا يستسلم، فكل عادة جديدة تحتاج إلى وقت لتترسخ.
ختامًا
التغيير ليس مستحيلًا، بل هو ممكن لكل من امتلك الإرادة والعزيمة. وكما أن النفس قد تستلذ بالباطل إن تعوّدت عليه، فهي قادرة على الاستمتاع بالحق إن تعوّدت عليه أيضًا. وما أجمل أن نستثمر الفرص العظيمة، كشهر رمضان، لإحداث تحولات إيجابية في حياتنا، والارتقاء بأخلاقنا وسلوكياتنا، فذلك هو الطريق إلى السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة.
نسأل الله أن يعيننا جميعًا على تزكية أنفسنا، والتمسك بالفضائل، والثبات على طريق الحق.