المقامة الرمضانية: نفحات وأسرار

إعلام رمضاني

نحو إعلام رمضاني هادف

إذا كان الإعلام قادرًا على التأثير في المجتمعات وتشكيل العادات والتوجهات، فإن توجيه هذا التأثير نحو الإيجابية أصبح ضرورة ملحّة، خاصة في شهر رمضان المبارك، حيث يكون للإنسان ميل طبيعي للصفاء الروحي والرغبة في التحسين الذاتي. لذا، كيف يمكننا تحقيق إعلام رمضاني هادف يخدم القيم الإسلامية ولا يعيق روحانية الشهر؟

1. إعادة صياغة مفهوم “الترفيه” في رمضان

لا يعني الترفيه الابتعاد عن القيم أو الانغماس في المحتويات غير الهادفة، بل يمكن للإعلام أن يقدم محتوى ممتعًا ومفيدًا في الوقت ذاته. على سبيل المثال، يمكن إنتاج مسلسلات درامية تحمل رسائل تربوية وأخلاقية، أو برامج مسابقات ثقافية تتناول السيرة النبوية والقصص الإسلامية، مما يجعل المشاهد يستمتع ويتعلم في آنٍ واحد.

2. تعزيز المحتوى الديني بطريقة إبداعية

بدلاً من تقديم البرامج الدينية بأسلوب تقليدي قد لا يجذب الأجيال الشابة، يمكن الاستفادة من الوسائط الحديثة لإنتاج محتوى ديني بأسلوب بصري جذاب، مثل الفيديوهات القصيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، أو البودكاست الديني الذي يناقش مواضيع تهم الشباب بأسلوب عصري.

3. إشراك الجمهور في اختيار المحتوى

اليوم، يمتلك المشاهد قوة التأثير من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يمكنه التعبير عن رأيه وانتقاد أو دعم محتوى معين. لذا، على المؤسسات الإعلامية أن تستمع للجمهور وتقدم لهم محتوى يتناسب مع قيمهم وتطلعاتهم الروحية خلال رمضان. يمكن إجراء استطلاعات رأي حول نوعية البرامج التي يرغب الناس في مشاهدتها، والعمل على تلبية تلك الاحتياجات.

4. التوعية الإعلامية للأفراد والأسر

من الضروري أن يكون للأفراد دور في اختيار المحتوى الذي يستهلكونه، وهنا يأتي دور التوعية الإعلامية داخل الأسر. على الوالدين توجيه أطفالهم إلى البرامج التي تعزز القيم الأخلاقية والإيمانية، والحدّ من التعرض للمحتويات التي قد تفسد روحانية الشهر.

رمضان فرصة للانتصار على التشتت الإعلامي

إذا كان الإعلام في رمضان يزداد تأثيره، فذلك لا يعني أن نستسلم له دون وعي. بل يجب أن نحسن استغلال هذا التأثير من خلال انتقاء المحتوى المفيد، والمساهمة في نشر الرسائل الإيجابية، وممارسة الرقابة الذاتية على ما نشاهده ونستهلكه. رمضان هو شهر الانتصار على النفس، فليكن أيضًا شهر الانتصار على التشتت الإعلامي، لنخرج منه بقلوب أنقى، وعقول أكثر وعيًا، وإيمانٍ أقوى.

إن العودة إلى جوهر رمضان الحقيقي تتطلب منا إعادة النظر في سلوكياتنا، ليس فقط فيما يخص الطعام، ولكن في كل ما يتعلق بهذا الشهر الكريم. فكما أن الإسراف في المأكل والمشرب يُفسد حكمة الصيام، فإن الانشغال بالمظاهر والرفاهية المبالغ فيها يُضعف الأثر الروحي الذي ينبغي أن يتركه رمضان في نفوسنا.

وليس من العدل أن نشتكي من الضغوط الاقتصادية في بقية العام، ثم نضاعف إنفاقنا في شهر يفترض أن يكون شهر الترشيد والتوازن! فكم من أسرة تُرهق نفسها بالمصاريف المبالغ فيها على الموائد والعزائم، رغم أن الكثير من هذا الطعام يُهدر ولا يُستهلك بالكامل، بينما هناك من لا يجدون قوت يومهم.

ومن الأمور المؤسفة أن هذا التبذير لا يقتصر على الطعام، بل يمتد ليشمل سلوكيات أخرى، مثل الإسراف في متابعة المسلسلات والبرامج الترفيهية التي تُنتج خصيصًا لجذب انتباه الصائمين، وكأن رمضان أصبح موسمًا للاستمتاع بالمشاهدة بدلاً من العبادة والتأمل.

إننا بحاجة إلى ثورة في المفاهيم الرمضانية، حيث نعيد ترتيب أولوياتنا، ونركز على ما هو أهم: كيف نخرج من رمضان بأرواح أنقى وقلوب أكثر صفاءً؟ كيف نجعل هذا الشهر فرصة للإحسان والبذل بدلًا من التبذير والإسراف؟

الحل يبدأ من كل فرد فينا، حين نقرر أن نمارس الصيام بمعناه الحقيقي، فلا يكون امتناعًا عن الطعام والشراب فقط، بل تربيةً للنفس على الاعتدال في كل شيء، واستخدام مواردنا بحكمة.

فلنعد إلى سنة نبينا ﷺ الذي كان رمضان عنده شهر العطاء والتخفف من الدنيا، ولنحاول أن نقتدي به في حياتنا، ليس فقط في رمضان، بل طوال العام. لأن الغاية من هذا الشهر ليست مجرد أداء فريضة، بل الاستفادة من دروسه طوال حياتنا، ليكون رمضان نقطة انطلاق نحو تغيير دائم، لا مجرد محطة مؤقتة تتكرر كل عام دون أثر حقيقي.

رمضان مدرسة لتغيير السلوك والوجدان

لا يقتصر أثر شهر رمضان على الجوانب التعبدية فقط، بل يمتد ليشمل تهذيب النفس وتعديل السلوك، مما يجعل المسلم أكثر صبرًا، ورحمة، وضبطًا للنفس. فالصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو تدريب على التحكم في الشهوات والمشاعر، كما قال النبي ﷺ:

“الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم” (رواه البخاري ومسلم).

لذلك، يجب أن يستمر هذا التهذيب النفسي بعد رمضان، بحيث يظل المسلم قادرًا على كظم الغيظ، وضبط انفعالاته، وتجنب المشاحنات، وتحري الحكمة في كلامه وأفعاله.

إعلام رمضاني
إعلام رمضاني

كيف نجعل رمضان نقطة تحول دائمة؟

لكي يكون رمضان نقطة انطلاق لحياة أكثر قربًا من الله، لا بد من الاستمرار في بعض العبادات والعادات التي تعزز الروحانية وتقوي العلاقة بالله، ومنها:

محاسبة النفس بانتظام: كما كنا نحرص في رمضان على مراقبة أعمالنا وسلوكياتنا، يجب أن نستمر في محاسبة أنفسنا يوميًا، لضمان الاستقامة على طريق الطاعة.

التخطيط للعبادات بعد رمضان: وضع خطة بسيطة تتضمن عبادات يومية، مثل الصلاة في وقتها، قراءة القرآن، الأذكار، والصدقة، يسهم في الحفاظ على الروح الإيمانية.

الصحبة الصالحة: الأصدقاء الصالحون الذين يشجعون على الطاعة هم عامل أساسي للاستمرار في الخير بعد رمضان.

عدم الإفراط في الترفيه بعد رمضان: كثيرون يعودون بعد رمضان إلى الإفراط في التسلية والمبالغة في اللهو، مما يؤدي إلى ضعف الهمة الروحية، لذا يجب الاعتدال في ذلك.

الخاتمة: هل سنكون عبادًا لرمضان أم لله؟

إن العبادة الحقيقية لا تقتصر على زمن معين، بل هي أسلوب حياة، ومن كان يعبد الله في رمضان فقط، فقد فاتته حقيقة الإيمان الصادق. قال الحسن البصري رحمه الله:

“إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلًا دون الموت”.

لذلك، علينا أن نغتنم ما تعلمناه في رمضان ونستمر في طريق الطاعة، حتى نلقى الله وهو راضٍ عنا، ونحقق الغاية العظمى من الوجود: العبادة المستمرة لله في كل وقت وحين.

مزيد من الخواطر الرمضانية