أمسيات رمضان
ليالي رمضان: نفحات إيمانية وفرصة لا تعوض
ليالي رمضان ليست كغيرها من الليالي، فهي محطة روحية يتزود منها المؤمنون في رحلتهم إلى الله، وفرصة عظيمة لمن يسعى إلى القرب منه. فيها تنهمر الرحمات، وتفتح أبواب الجنة، ويعم الخير والبركة، فهي مشرفة بزمانها ومضاعفة بفضل العبادة فيها.
ومع تسارع الأيام، ها نحن نشهد تناقص هذه الليالي المباركة، التي طالما انتظرناها بشوق ولهفة، وها هي تتهيأ للرحيل، حاملة معها أعمال الصالحين وأجور الصائمين والقائمين والذاكرين. فمن فاز فيها فقد سعد، ومن ضيّعها فقد خسر فرصةً لا تقدر بثمن.
ليالي رمضان: عتق ورحمة
ما أعظم ليالي رمضان، ففي كل ليلة منها يعتق الله رقابًا من النار، وينادي المنادي: “يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر”. إنها ليالٍ تفيض بالرحمة والمغفرة، حيث تُغلق أبواب النار، وتُصفد الشياطين، ويتضاعف الأجر لمن اجتهد في الطاعة والعبادة.
القرآن في ليالي رمضان
ليالي رمضان عامرة بتلاوة القرآن، فقد كان جبريل عليه السلام يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في كل ليلة من هذا الشهر الكريم، فكان الصالحون يحرصون على تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، لأنه شفيع لأصحابه يوم القيامة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة…”.
قيام الليل والتهجد
من فضائل ليالي رمضان أن الله جعل فيها قيام الليل سببًا لمغفرة الذنوب، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه”. إنها ليالٍ تسمو فيها الأرواح بالقرب من الله، فتعلو الدرجات وتُمحى السيئات، لذا كان الصالحون لا يفرطون فيها.
ليلة القدر: كنز لا يُقدر بثمن
ومن بين هذه الليالي، ليلة هي خير من ألف شهر، ليلة اختصها الله بفيض من البركة والرحمة، ليلة القدر، التي من قامها إيمانًا واحتسابًا نال المغفرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه”. فكيف لنا أن نغفل عنها، وهي تساوي في فضلها عبادة ثلاث وثمانين سنة؟
السحر: لحظات الصفاء والرحمة
ومن أعظم أوقات ليالي رمضان، وقت السحر، حيث قال الله تعالى في وصف عباده المتقين: “وبالأسحار هم يستغفرون”، ففيه تفيض الرحمة، ويقترب العبد من ربه بالدعاء والاستغفار، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الله ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، فيقول: “من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له”.
فلنجعلها ليالي طاعة واجتهاد
مع اقتراب نهاية هذا الشهر الفضيل، فلنجعل همّنا أن نقدم بين يدي الله خير الأعمال، وأن نغتنم ما بقي من لياليه المباركة بالاجتهاد في الطاعات، فإن الخاسر حقًا هو من أدرك هذه الليالي ولم ينل من خيرها. نسأل الله أن يجعلنا ممن كتب لهم العتق والمغفرة والقبول.
لنختم رمضان بقلوبٍ مخلصة وأعمالٍ صادقة
ومع اقتراب ختام هذا الشهر الكريم، ينبغي أن نقف وقفة تأملٍ ومحاسبة: كيف كنا؟ وماذا قدمنا؟ وهل اغتنمنا هذه الليالي المباركة كما ينبغي؟
فلا تزال الفرصة قائمة، ولا يزال الباب مفتوحًا، فمن قصّر في أول الشهر فليجتهد في آخره، ومن اجتهد فليزد من إحسانه، فالأعمال بالخواتيم، والله أكرم من أن يرد من أقبل إليه صادقًا نادمًا، راجيًا رحمته وعفوه.
إن رحيل رمضان ليس مجرد انتهاء شهرٍ من السنة، بل هو انتهاء فرصةٍ عظيمةٍ لا يعلم أحدٌ إن كان سيدركها مرةً أخرى. فعلينا أن نحمل معنا من بركاته ما يثبتنا بعده، وأن نواصل السير في طريق الطاعة، فإن رب رمضان هو رب الشهور كلها، ومحبته وعبادته ليست مقصورةً على زمانٍ دون آخر.
نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يجعلنا من عتقائه في هذا الشهر المبارك، وأن يثبتنا على طاعته بعده، وأن يعيده علينا أعوامًا عديدة ونحن في صحةٍ وعافيةٍ وإيمانٍ متجدد.
ما بعد رمضان: الاستمرار على الطاعة
ليس من الحكمة أن نكون في رمضان من أهل الطاعة والقرب، ثم نهجر ذلك بعد انقضائه، فمن أحب الله حقًا، عبده في كل وقتٍ وحين. فالصيام لا ينتهي بانتهاء الشهر، فهناك صيام النوافل كصيام الست من شوال، والتي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: “من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال، كان كصيام الدهر”.
وكذلك القيام، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مواظبًا عليه طوال العام، فعلينا أن نحافظ عليه ولو بركعاتٍ يسيرة في جوف الليل. أما القرآن، فكما كنا نحرص على تلاوته في رمضان، فلنحافظ على وردٍ يومي بعده، فبه تحيا القلوب، وبه يكون الفلاح.

الثبات بعد رمضان
إن الثبات على الطاعة هو الاختبار الحقيقي لعبادة رمضان، فالموفق هو من يستمر على الطاعات، ويجعل من رمضان نقطة انطلاقٍ نحو مزيدٍ من القرب من الله، لا مجرد محطة مؤقتة يعود بعدها إلى الغفلة.
فلنحرص على الاستمرار في ذكر الله، والاستغفار، وقراءة القرآن، والإنفاق في سبيل الله، وبر الوالدين، والإحسان إلى الخلق، فهذه هي علامة القبول، قال بعض السلف: “ثواب الحسنة الحسنة بعدها”، فمن وجد في نفسه إقبالًا على الطاعة بعد رمضان، فليعلم أن الله قد قبله ووفقه.
نسأل الله القبول
وفي الختام، نسأل الله أن يكون قد تقبل منا صيامنا وقيامنا، وأن يجعلنا من عتقائه من النار، وأن يعيننا على الثبات بعد رمضان، وأن يجعلنا من عباده الصالحين الذين يعبدونه في كل زمان ومكان، لا تنقطع طاعتهم بمرور الأيام، ولا تضعف همتهم بعد انقضاء المواسم.