طريق القرآن إلى القلوب في رمضان

أفنان التيسير

رحمة الإسلام وسهولة أحكامه في شهر رمضان

إن مظاهر الرحمة التي أنعم الله بها على هذه الأمة تتجلى بأشكال متنوعة وصور متجددة، حيث تظل سماء الرحمة تمطر بركاتها، فتُثمر بساتين النعمة بتشريعات سماوية تحقق للمسلمين السهولة واليسر في عباداتهم، وتعزز لديهم عظمة الإسلام، وتدفعهم للثبات عليه.

ومن أعظم مظاهر هذه الرحمة الإلهية: التخفيف والتيسير في أحكام الشريعة الإسلامية، فقد جاء الإسلام برفع الحرج والمشقة عن أتباعه، كما قال تعالى: ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [المائدة: 6]، وقوله سبحانه: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]. وهذا من رحمة الله بأهل هذا الدين الذي أُرسل به نبي الرحمة محمد ﷺ.

التيسير في عبادة الصيام

يبرز التيسير في كثير من أبواب الإسلام، ومن أوضحها التخفيف في صيام رمضان، حيث جاءت التشريعات محاطة بالرفق والسهولة. قال الله تعالى:

﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185].

ورغم أن الصيام قد يبدو فيه مشقة، إلا أن الله جعله ميسرًا بطرق عديدة:

لم يُفرض الصيام دفعة واحدة، بل مر بمراحل تدريجية حتى صار إلزاميًا بشروط معينة، تخفيفًا على النفوس التي لم تعتد صيام شهر كامل.

فرضه الله مرة واحدة في العام، ولم يجعله متكررًا على مدار السنة، فهو “ضيف خفيف” يأتي في فترة قصيرة، كما أشار القرآن: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾ [البقرة: 184].

لم يُفرض على الجميع، بل يُستثنى منه بعض الفئات مثل: الصغار، المرضى، المسافرين، كبار السن، والنساء الحوامل والمرضعات، وكل ذلك تخفيفًا ورحمةً بهم.

منح الله أصحاب الأعذار فرصة تعويض الصيام بعد رمضان حتى لا يُحرموا الأجر، فقال: ﴿ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾.

صور أخرى من التيسير في الصيام

تتعدد أوجه الرحمة والتخفيف في صيام رمضان، ومنها:

1. من أكل أو شرب ناسيًا فصيامه صحيح، لأنه لم يتعمد الإفطار، فقد قال النبي ﷺ: “من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه”.

2. إذا أصبح الشخص جنبًا فصيامه مقبول، فقد كان النبي ﷺ يدركه الفجر وهو جنب ثم يغتسل ويصوم.

3. الاحتلام أثناء النهار لا يفسد الصيام، لأنه أمر خارج عن إرادة الصائم.

4. السماح بالأكل والشرب والجماع خلال الليل حتى وقت الفجر، ولو كان ذلك ممنوعًا لكان في الأمر مشقة عظيمة.

5. سهولة القضاء لمن أفطر بعذر، فليس عليه إلا أن يصوم أيامًا أخرى دون عقوبة أو غرامة.

6. عدد المفطرات قليل مقارنة بالمباحات، وهذا يدل على رحمة الله في تشريعه.

إن الشريعة الإسلامية قائمة على الرحمة والتيسير، لا التعسير، وهذا يتجلى في صيام رمضان وغيره من العبادات. فالحمد لله الذي شرّع لنا دينًا سهّل علينا فيه التكاليف، وأعاننا برخصه وأحكامه الحكيمة، فجعل الدين يسيرًا لكل من أراد سلوكه.

رحمة الإسلام في تيسير أحكام الصيام

إن الشريعة الإسلامية قامت على التيسير ورفع المشقة عن المكلفين، وكان ذلك واضحًا في جميع التشريعات، ولا سيما في فريضة الصيام، التي جاءت مقرونة بالرحمة والسهولة، مراعيةً لحالة الإنسان وظروفه المختلفة.

ومن صور التخفيف في الصيام أن الله لم يفرضه على الجميع، بل وضع له شروطًا حتى لا يكون عبئًا على من لا يستطيع تحمّله. فالطفل غير المكلف لا يلزمه الصيام، والمجنون معذور، والمريض والمسافر أُعطيا رخصة الإفطار مع وجوب القضاء لاحقًا، وكل ذلك يدل على يسر الإسلام وسماحته.

أحكام خاصة بالتخفيف في الصيام

1. السفر والصيام:

أجاز الله للمسافر أن يفطر في نهار رمضان، تخفيفًا عنه، كما قال تعالى:

﴿ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 185].

وهذا الحكم يراعي مشقة السفر، حتى وإن لم يكن السفر مرهقًا جدًا، فالعبرة بأن السفر بطبيعته يسبب اضطرابًا في حياة الإنسان، وقد يؤثر على صحته.

2. المرض والصيام:

المريض الذي يتضرر بالصيام يجوز له الإفطار، بل قد يجب عليه إذا كان الصيام سيفاقم مرضه، وله أن يقضي الأيام لاحقًا حين يتعافى. أما إذا كان المرض مزمنًا، ولا يُرجى شفاؤه، فقد خفف الله عنه فأباح له الفدية، كما قال تعالى:

﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [البقرة: 184]

3. كبار السن والصيام:

كبار السن الذين يعانون من الضعف ولا يستطيعون الصيام، يجوز لهم الإفطار مع دفع الفدية، وهي إطعام مسكين عن كل يوم أفطروه. وهذا من رحمة الله بعباده، حيث لم يكلفهم فوق طاقتهم.

4. الحامل والمرضع والصيام:

الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو على الجنين أو الرضيع، جاز لهما الإفطار، وعليهما القضاء لاحقًا، لأن صحة الأم والطفل مقدمة في الشريعة الإسلامية، والصيام قد يكون سببًا في ضعف الأم أو نقص تغذية الجنين.

5. الحائض والنفساء والصيام:

من رحمة الله بالمرأة أنها لا تصوم في حال الحيض أو النفاس، لأن هذه الحالات يصاحبها تعب جسدي وإرهاق، فأُعطيت المرأة رخصة الإفطار، على أن تقضي الأيام لاحقًا بعد الطهر.

أفنان التيسير
أفنان التيسير
التيسير في أداء الصيام نفسه

إضافة إلى التخفيف في فرض الصيام على فئات معينة، جاءت أحكام أخرى تسهّل على الصائم أداء هذه العبادة، ومنها:

1. جواز الأكل والشرب حتى يتبين الفجر: فقد أباح الله للصائم أن يأكل ويشرب في الليل حتى يظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فقال:

﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ [البقرة: 187].

2. عدم بطلان الصيام بسبب النسيان: إذا أكل الصائم أو شرب ناسيًا، فلا يُفسد صيامه، لأن الله هو الذي رزقه ذلك، كما جاء في الحديث النبوي:

“من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه”.

3. السماح بالمباشرة بين الزوجين ليلًا: فقد كان في بداية الإسلام محرّمًا على المسلم أن يأكل أو يباشر زوجته بعد النوم، ثم خفف الله ذلك بقوله:

﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ [البقرة: 187].

4. عدم بطلان الصيام لمن أصبح جنبًا: من كان جنبًا وطلع عليه الفجر، فصيامه صحيح، وعليه فقط أن يغتسل، كما ثبت عن النبي ﷺ.

5. الاحتلام لا يُفطر: فلو احتلم الصائم أثناء النهار، فلا شيء عليه، لأنه لم يتعمد ذلك.

6. عدم إفساد الصوم بتذوق الطعام أو استعمال بعض الأدوية: كالمضمضة، واستعمال السواك، والاكتحال، فكلها أمور لا تفطر، تخفيفًا على الصائمين.

التوازن بين العبادة والتيسير

إن الصيام عبادة عظيمة، لكنه لم يُفرض بطريقة تسبب المشقة للمسلمين، بل جاء الإسلام بتشريعات مرنة تحقق التوازن بين العبادة والراحة، فالصيام لم يُفرض إلا لفترة قصيرة من السنة، وأُجيز الإفطار في حالات العذر، وأُعطي الصائم فرصة القضاء أو الفدية بحسب حالته.

وهذا النهج الإسلامي في التخفيف جعل المسلمين يداومون على العبادة دون نفور أو مشقة، كما قال النبي ﷺ:

“يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا”.

خاتمة

إن رحمة الله بعباده واضحة في جميع التشريعات، وخاصةً في الصيام، فقد جعله الله يسيرًا، لمن استطاع، وخفّف عن أصحاب الأعذار، حتى لا يحرم أحد من الأجر. فالحمد لله الذي أوجب فسهّل، وفرض فخفّف، وجعل الدين رحمة للعباد.

مزيد من الخواطر الرمضانية